نجلاء العتيبي
إن الغرابة التي يُبديها بعضهم حين نتمسَّك بمفرداتنا الموروثة عن أجدادنا ليست سوى انعكاسٍ لضعف الصلة بين الإنسان وجذره اللغوي، فاللهجة ليست مُجرَّد نغمةٍ صوتيةٍ أو طريقة نطقٍ، إنها ذاكرةٌ متراكمةٌ في الحروف تحمل في طيَّاتها التجارب والعادات والمواقف التي عاشها الناس، وتختزن تاريخهم في نطقهم اليومي البسيط.
إن الكلمة التي ننطقها بلهجتنا ليست صدفةً، بل هي أثرٌ من زمنٍ سابقٍ ترك بصمته في ألسنتنا، كما تترك الرياح ملامحها على الرمال.
حين يتمسَّك الإنسان بلهجته لا يفعل ذلك تعصُّبًا أو انغلاقًا؛ إنما حفاظًا على وعيٍ لغويٍّ يحميه من الذوبان في الأصوات المستوردة التي لا تمتُّ لجذره بصلة؛ لأن اللهجة في جوهرها هي الوجه الشعبي للغة الأم، وهي الامتداد الحي للفصحى في الوجدان الجمعي، وهي صلة الوصل بين النص الفصيح والتراث الإنساني الذي نمارسه يوميًّا دون أن نشعر.
فالإنسان حين يتحدَّث بلهجته يتحدَّث بذاكرته، وكل خروجٍ عنها دون وعيٍ هو انفصالٌ عن ذاته الأولى؛ لأن الكلمات التي ورثناها من آبائنا لم تكن محضَ وسيلةٍ، إنما كانت وعاءً للقيم والمشاعر والرؤية.
قد يظن بعضهم أن التطوُّر اللغوي يقتضي إلغاء اللهجات أو توحيدها، غير أن هذا التصوُّر يغفل أن التنوُّع هو ما يمنح اللغة ثراءها، وأن الفصحى نفسها وُلدت من رحم اختلاف اللهجات العربية القديمة، فكيف نرى في هذا التعدُّد ضعفًا وهو أصل القوة؟ إن اللهجة ليست خصمًا للفصحى، وإنما ذراعٌ لها في الحياة اليومية، فالفصحى ترفعنا إلى البيان، واللهجة تُقرّبنا من الواقع، ومن خلالهما نحيا ازدواجًا جميلًا يُثري وعينا، ولا ينتقص من أصالتنا. فكلُّ أُمَّةٍ تفقد لهجتها تفقد روحها؛ لأن اللهجة تخلق هوية صوتية لا يمكن استنساخها.
في نغمة الحروف نسمعُ الأرض التي خرجت منها، وفي طريقة النطق نلمسُ أثر البيئة والمناخ والعلاقات الاجتماعية، فلكلِّ منطقةٍ موسيقاها الخاصَّة التي تعكس مزاجها الجمعي.
وحين نُبدّل لهجتنا عن عمدٍ لنُرضي ذوقًا غريبًا نُطفئ شيئًا من لهب الانتماء في داخلنا.
إن الحفاظ على لهجتنا لا يعني رفض التجديد، وإنما أن يبقى الجديد متصالحًا مع الجذر لا نابذًا له؛ فالأصالة لا تناقض الحداثة، لكنها تضعُ لها حدود المعنى.
لقد علَّمنا التاريخ أن اللغة التي تُهمَلُ تموت، وأن اللهجات التي تُزدرَى تنكمش حتى تختفي، ومعها تختفي طريقة التفكير التي أنشأتها.
إن الكلمة التي نُردّدها منذ طفولتنا تحمل منظومةً شعوريةً لا تُترجم في لغةٍ أخرى، فحين نقول كلمةً عاميةً نعرفها جيدًا نشعر بدفئها؛ لأننا عشنا بها، وحين نستبدلها بكلمةٍ مستعارةٍ نفقدُ جزءًا من الدفء ذاته.
ومن هنا كانت اللهجةُ سياجَ الهوية، وليست مُجرَّد عادةٍ صوتيةٍ.
إن الإنسان الذي يحترم لهجته يحترم ذاكرته الجمعية، ومَن يحتقرها يجهل أنه يهدم جزءًا من شخصيته الثقافية؛ فاللهجة تحمل صدق الحياة اليومية، وتمنح اللغة الرسمية روحًا قريبةً من الناس، وحين نحافظ عليها نحافظ على ملامحنا كما نحافظ على وجوهنا من الذوبان في الملامح المستعارة. لا عيب في أن نتحدَّث بلهجتنا، ولكن العيب أن نخجل من صوتنا حين يكون صادقًا.
إن الاعتزاز بالهوية اللغوية ليس ماضويةً، إنما وعيٌ بمصدر القوة؛ لأن الأمم التي تتصالح مع لغتها تملك حقَّ التعبير عن ذاتها دون وسيطٍ غريبٍ ولا ترجمةٍ ناقصةٍ.
وهكذا تبقى اللهجةُ لسانَ الروح، والفصحى لسانَ الفكر، وبينهما يقف الإنسان حرًّا، أصيلًا، صادقَ الانتماء.
ضوء
«اللهجة ليست نطقًا فحسبُ، إنها ذاكرة الحروف وصوت الأصالة».