عبدالوهاب الفايز
هذا الأسبوع يتجه اهتمام العالم إلى الحدث السياسي الذي تشهده واشنطن، حدث سوف يساهم في إعادة رسم خرائط الشراكات الإستراتيجية في مجال الطاقة، وهذا الحدث هو زيارة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود إلى واشنطن.
جدول زيارة سموه الحالية حافل باللقاءات والاجتماعات رفيعة المستوى، يتصدرها لقاء مع الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض اليوم الأربعاء، مصحوبًا بحفل استقبال رسمي وعشاء كما أعلن البيت الأبيض. ومن المتوقع أن تشهد الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات، بما في ذلك صفقات في الدفاع والأمن، ومشاريع استثمارية في مجالات الطاقة والتكنولوجيا. غير أن ملف الطاقة يظل العنوان الأبرز، كونه الركيزة الإستراتيجية التي تجمع بين البلدين منذ عقود.
إذا كانت الولايات المتحدة، بصفتها أكبر اقتصاد عالمي، تتطلع إلى شريك موثوق يجمع بين الإمدادات التقليدية والابتكارات الخضراء، فإن السعودية تمثل الخيار الأمثل. فالطرفان يمتلكان فرصة تاريخية للبناء على منجزات التعاون الذي يمتد لما يقارب 90 عامًا، بدءًا من اكتشاف النفط في السعودية عام 1933 على يد شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا (التي أصبحت شيفرون اليوم)، مرورًا باللقاء التاريخي بين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله -، والرئيس الأمريكي الراحل روزفلت عام 1945 الذي كرَّس شراكة استراتيجية في مختلف المجالات، وصولًا إلى الشراكة الحديثة التي شكلت أساس أرامكو وأمن الطاقة العالمي. هذه الشراكة ليست مجرد تاريخ اقتصادي، بل هي نموذج للاستقرار الذي ساعد في تجنب أزمات عالمية عديدة.
السعودية اليوم ليست مجرد منتج نفطي، بل فاعل مسؤول يدير النفط كسلعة إستراتيجية ومسؤولية دولية، مع الحفاظ على فائض إنتاجي يصل إلى 2.43 مليون برميل يوميًا (كما في أغسطس 2025) مما يجعلها «الضامن العالمي» لاستقرار الأسواق العالمية. ومن مصلحة أمريكا أن تستمر هذه الشراكة لتعظيم المنافع المتبادلة، حيث تقود السعودية توجهًا واقعياً في الطاقة، وتتصدر في قيادة المبادرات البيئية مثل «مبادرة السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر». هذا التحالف ليس ضرورة اقتصادية فحسب، بل ضرورة عالمية وحضارية وإنسانية.
بالنسبة لأمريكا، الذي نتمنى أن يكون حاضراً لدى رجالات السياسة والاقتصاد في واشنطن هو الثقة بأن السعودية سوف تظل الشريك الاستراتيجي الموثوق. منذ عقود، أثبتت المملكة دورها كفاعل مسؤول في سوق الطاقة العالمية، حيث عملت دائمًا على حماية استقرار الإمدادات وتوازن الأسواق، متفاديةً الاضطرابات في الاقتصادات العالمية، خاصة الدول النامية التي تعتمد على الطاقة بأسعار معقولة. في السبعينيات، على سبيل المثال، ساهمت السعودية في تهدئة أزمة النفط من خلال زيادة الإنتاج، مما منع انهيارًا اقتصاديًا عالميًا.
اليوم، مع سعة إنتاج أرامكو البالغة أكثر من 12 مليون برميل يوميًا، تحافظ السعودية على فائض احتياطي يفوق 2 مليون برميل يومياً، وهو الأكبر في (مجموعة أوبك+)، مما يتيح لها الاستجابة الفورية للأزمات كما حدث في 2022 وفي 2025 أثناء التوترات الجيوسياسية.
هذه الميزة النادرة ليست مصادفة، بل نتيجة استراتيجية مدروسة بدأت مع تأسيس أرامكو في الثلاثينيات، حيث أصبحت السعودية الشريك الرئيسي في ضمان تدفق النفط إلى الأسواق العالمية، وكان لهذا الاستقرار في الإمدادات الأثر المباشر على ازدهار ونمو الاقتصادين الأوروبي والأمريكي والعالمي. وفقًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة، يساهم هذا الفائض في استقرار أسعار النفط عالميًا، كما يحمي الدول الفقيرة من الصدمات السعرية التي قد تؤدي إلى أزمات غذائية أو تضخم. في السياق الحالي، مع تقلبات الأسعار الناتجة عن التوترات في الشرق الأوسط، يظل دور السعودية حاسمًا، كما أكدت اتفاقيات أوبك+ في 2025.
هذا الدور يعزز الشراكة مع أمريكا، التي أصبحت منتجًا نفطيًا كبيرًا بفضل النفط الصخري، وقد لا تحتاج نفط الشرق الأوسط. ولكن يبقى من مصلحة أمريكا استمرار الاعتماد على الدور السعودي لسد الفجوات العالمية. الزيارة الحالية نأمل أن تعكس هذه الحقيقة لإتمام الصفقات والشركات في صناعة الطاقة التي تعزز دور السعودية وأهميتها لمنظومة الطاقة العالمية، خصوصاً بعد التحول الكبير في واقع الطاقة في السعودية.
في إطار رؤية السعودية 2030، اتجه التحول السعودي في مجال الطاقة إلى مسار نوعي: التحول من دولة نفط إلى دولة طاقة. فلم يعد النفط العنوان الوحيد للطاقة السعودية، بل أصبح جزءًا من مزيج وطني متكامل يشمل الطاقة الشمسية، والرياح، والهيدروجين، والتقنيات المتقدمة. و(البرنامج الوطني للطاقة المتجددة)، الذي تشرف عليه وزارة الطاقة يهدف إلى الوصول إلى مزيج طاقة مكون من الغاز والطاقة المتجددة، وفي هذه الأخيرة يجري العمل على الوصول إلى سعة إجمالية تصل إلى ما بين 100 إلى 130 جيجاوات. مع ما يتحقق من نتائج على صعيد تقليل الانبعاثات هذا البرنامج حقق تقدمًا ملموسًا، ورأينا مشاريع عملاقة مثل محطة سدير الشمسية التي تبلغ 1.5 جيجاوات، والشعيبة، والكهفة، وسلسلة طويلة من المشاريع في الطاقة الشمسية والرياح، فضلاً عن الاستثمار في البطاريات، وتنفيذ مشروع عملاق للمسح الجغرافي يتعلق بإمكانيات البلاد في الطاقة المتجددة.
أحد أبرز إنجازات البرنامج استهداف إزاحة ما يقارب مليون برميل نفط يوميًا من الاستهلاك المحلي، مما يحرر موارد إضافية للتصدير ويساهم في استقرار الأسواق العالمية. هذا التحول لن يخدم الاحتياجات المحلية فحسب، بل يخدم الاقتصاد الدولي، حيث يقلل الضغط على الإمدادات النفطية ويفتح أسواقًا جديدة للطاقة النظيفة. في 2025، أعلنت السعودية عن استثمارات بقيمة 32 مليار دولار في مشاريع الطاقة الخضراء حتى 2030، بما في ذلك تطوير سوق هيدروجين أخضر بقيمة 25 مليار دولار سنويًا.
هذا النهج يعكس رؤية الأمير محمد بن سلمان في تحويل السعودية إلى مركز طاقة عالمي، مدعومًا باتفاقيات دولية مثل تلك الموقعة في مايو 2025 مع الولايات المتحدة مما يعزز التعاون التكنولوجي ويفتح أبوابًا للشركات الأمريكية في السوق السعودية. هذا التحول تأكيد على أن السعودية قوة استدامة.. لا دولة «طاقة تقليدية». فما يميز السعودية في عصر الطاقة الجديد ليس اللحاق بالركب، بل قيادته.
فهي رائدة في مبادرات المناخ بالشرق الأوسط، من خلال «مبادرة السعودية الخضراء» (SGI) التي أطلقت في 2021، والتي تهدف إلى تقليل الانبعاثات بـ 278 مليون طن، زراعة 10 مليارات شجرة، وحماية 30 % من الأراضي والبحار بحلول 2030، مع الوصول إلى صفر انبعاثات بحلول 2060. كما أن «مبادرة الشرق الأوسط الأخضر» (MGI) توسع هذا الجهد إقليميًا، بزيادة زراعة 50 مليار شجرة في المنطقة (10 مليارات في السعودية)، وترميم 200 مليون هكتار من الغطاء النباتي.
في مجال الهيدروجين الأخضر، تتقدم السعودية بمشاريع مثل NEOM Green Hydrogen Company، التي أثبتت جدوى إنتاج هيدروجين أخضر على نطاق كبير، وتستهدف تصدير 650 طنًا يوميًا بحلول 2026. هذه المبادرات تتعامل مع الطاقة بمنطق الاستدامة، لا العائد السريع، كما في اتفاقيات يوليو 2025 مع شركات أوروبية لتصدير الطاقة المتجددة والهيدروجين، بقيادة أكوا باور. كل هذه الاستثمارات النوعية تجعل السعودية شريكًا مثاليًا لأمريكا، حيث يمكن للتكنولوجيا الأمريكية في التقاط الكربون والاقتصاد الدائري أن تندمج مع القدرات السعودية، مما يخلق نموذجًا للطاقة النظيفة العالمية.
كما نجح البلدان في التعاون في مجال النفط واستكشافه وتطويره، ما نتطلع إليه من الزيارة الحالية هو المساهمة في توثيق الشراكة الأمريكية - السعودية في مجالات أخرى جديدة. فمع تغير خرائط الطاقة العالمية، وظهور مراكز قوة حديثه، تبقى الشراكة السعودية - الأمريكية قادرة على تقديم نموذج آمن ومربح في صناعة الطاقة. التكامل بين القدرة السعودية الإنتاجية والإمكانات الأمريكية الابتكارية يمكن أن يشكل «حلف الطاقة الجديد»، خاصة في:
الهيدروجين الأخضر والأزرق: اتفاقيات 2025 تشمل تطوير مشاريع مشتركة، مع استثمارات أمريكية في NEOM.
تقنيات الكربون والاقتصاد الدائري: تعاون في إدارة الانبعاثات، مدعومًا بـ»الاقتصاد الكربوني الدائري» السعودي.
أمن الإمدادات عبر الممرات البحرية: ضمان تدفق النفط والغاز.
توطين الصناعات التحويلية: نقل التكنولوجيا الأمريكية لصناعة البطاريات والهيدروجين.
سوق الطاقة النظيفة: استثمارات مشتركة بـ600 مليار دولار، كما في مايو 2025.
هذه المجالات مطروحة للنقاش في هذه الزيارة، مع تركيز على الطاقة النووية المدنية، حيث تجري مفاوضات لنقل تكنولوجيا أمريكية إلى السعودية.
بقي القول إن زيارة سمو الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن ليست مجرد حدث سياسي، بل منعطف لتجديد الشراكة التاريخية. السعودية تقدم اليوم طمأنينة عالمية، واستقرارًا اقتصاديًا، ومبادرات إنسانية لمكافحة التغير المناخي. أمريكا، إن أرادت شريكًا مستدامًا، فلن تجد أفضل من السعودية. هذه الشراكة، بعد 90 عامًا، ليست ماضيًا، بل فيها خدمة لمستقبل الطاقة العالمي.