هدى بنت فهد المعجل
يقول سيلفر بيرش «المعاناة ليست عقوبة، بل معلم، يفتح أمامك أبواب الحكمة والصبر والرحمة».
إذًا المعاناة، في جوهرها، ليست عدوًّا للإنسان كما يظن، بل معلم صامت يقوده نحو وعيٍ أعمق بذاته وبالحياة. حين تمرّ النفس بتجربة الألم، تنكسر فيها أوهام السيطرة وتتكشّف هشاشتها، لكنها في الوقت ذاته تكتسب بصيرة جديدة، فالمعاناة لا تأتي لتدمّر، بل لتكشف، لتُظهر ما خفي خلف أقنعة الراحة والاعتياد. وكما قال سيلفر بيرش: «المعاناة ليست عقوبة، بل معلم»، فهي ليست حكمًا من القدر، بل منهج في التهذيب الروحي والعقلي.
في الفلسفة النفسية، يُنظر إلى الألم كأداة لتوسيع الوعي، فبدون صدمات الحياة، يظل الإنسان أسير دائرة الراحة، يرى العالم من زاوية ضيقة، ويظن أن السعادة دائمة، وأن الخسارة أمر استثنائي. لكن حين تأتي المعاناة، تُحدث اهتزازًا في البنية الداخلية للذات، تهدم اليقين الزائف وتعيد ترتيب القيم، عندها يدرك الإنسان أن النضج ليس في تجنّب الألم، بل في فهم معناه.
الصبر الذي يولد من رحم المعاناة ليس خضوعًا، بل وعيٌ بالحدود. إنه لحظة إدراك أن الحياة لا تسير وفق رغباتنا، وأن الاتزان الداخلي لا يتحقق إلا بقبول ما لا يمكن تغييره. ومن هذا القبول تنبع الرحمة - الرحمة بالذات أولًا، لأنها هي التي تتحمّل ثقل التجربة، ثم بالآخرين الذين يعانون بدورهم بصمتٍ مشابه. فالمتألم الذي وعى معنى ألمه يصبح أكثر رقة في الحكم، وأكثر تفهمًا في التعامل.
المدهش أن المعاناة، رغم قسوتها، تُعيد الإنسان إلى إنسانيته. فهي تُذيب الغرور وتكسر التباهي وتعيده إلى بساطته الأولى، إلى وعيٍ يرى الجمال في الضعف كما في القوة. وفي أعمق مستوياتها، تصبح المعاناة لغة تواصل بين الإنسان والوجود، حوارًا صامتًا يعلّمه أن وراء كل ألم معنى، ووراء كل فقدٍ بداية جديدة.
لذلك، من يهرب من المعاناة يهرب من دروسه الكبرى، أما من يواجهها بوعي، فإنه يتحوّل تدريجيًا إلى إنسانٍ أكثر صفاءً وحكمة. فالحكمة ليست ثمرة الكتب فقط، بل ثمرة ما جُرّب، وما كُسِر، وما التئم من جديد.
إن الألم، حين يُفهم، لا يعود عدوًا، بل مرشدًا يوجّهنا نحو أنفسنا، ومن يتعلم منه، لن يرى في المعاناة عقوبة، بل بوابة عبور نحو إنسانٍ أكثر عمقًا ورحمة ونورًا.