أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تعد حواضرالكينونات ما فوق الذرية مجرد لحظات برهية تدوم عبر أطياف شرائحية زمكانية فيزيوكونية آنية متفلته لا يزيد مدى بقائها لأكثر من أجزاء ضئيلة من الميكروثانية الواحدة لتندثر تلك اللحظات بعد بلوغها ذلك المدى الى الأبد في براثن إيقاعات مواض حواضرها التراكمية السحيقة زمنياً.
أما مستقبل تلك الكينونات فهو غيبيٍ أو عدميٍ لم يتولد بعد، بل كلما تولدت لحظة منه تسرع تلك اللحظة الخطى كي تغادر حاضرها كما غادرت نظيراتها وتاهت من قبل في براثن المَوَاضِي العديدة التي تلاشت في غياهبها تلك الحواضر الى الأبد. ويختلف بطبيعة الحال تأويل هذه القضية عند المستويات الذّريّة وما تحت الذّريّة حيث تنفي نظرية ميكانيكا الكم (النظرية الكمومية) وجود الزمن في هذه المستويات. ونتيجة لذلك يستبدل الزمن في هذه النظريةُ بعلاقات تبادلية بين حجم الكون وقيمة حقل مادي ما، فكما يتطور الكون مع مرور الزمن ويكبر، فإن قيمة هذا الحقل تتغير وتتطور هي الأخرى مما يهيئ فرصا تطبيقية في مثل هذه الحالات فائقة الفاعلية.
ولهذا نجد أن الجسيمات ما تحت الذرية كالإلكترون مثلاً تستنكف، حسب ميكانيكا الكم، محاكاة الكينونات ما فوق الذرية التي تتدفق أزمنتها ذهنيا من الماضي الى الحاضر فالمستقبل. فَتَصدُرُ تلك الجسيمات بناء على ما سبق سرده أعلاه كالإلكترون مثلا عن حالات لا نهائية من أزمنة المواضي المحتملة التي تَحكُم الحركة العشوائية لمختلف الجسيمات ما دون الذرية.
وتكمن أغرب تلك الحالات في بعض الجسيمات ما تحت الذرية التي لا يسمح عمرها الكمي بتحديد ماضيها وحاضرها ناهيك عن تحديد فاصل زمنها المستقبلي أو الإحساس به كالكوارك الذي يعيش مثلا عمرا يقدر بالبيكوثانية. وإضافة الى ما سبق فالتشابك الكوانتمي في ميكانيكا الكم لا يُقِرٌّ أيضا بالمكان والزمان، فمن خلال هذا التشابك تنتقل الفوتونات عبر أوساط عديمة المدى زمكانيا، وهو ما أثبتته التجارب التي أجريت مثلا في جزيرة تناريف التي تقع في المحيط الأطلسي قبالة الساحل الشمالي الغربي لقارة أفريقيا بالقرب من المغرب العربي، أو كذلك ما تم إثباته أيضاً في مجال التشابك الكمومي المتعلق تحديداً بتأثر فوتون بآخر آنياً رغم المسافات الضوئية الهائلة التي تفصل بينهما فضائياً.
ومن الضروري عند هذه النقطة المفصلية من المقال التنويه أن مصطلح العشوائية الآنفة الذكر أعلاه لا يعني بالطبع معرفيا أن العالم بدون ترتيب، ولكن على الرغم من ذلك فإنني أعتقد أن العشوائية الانتروبية او الكمومية في رأيي هي ظاهرة إدراكية غير وجودية ارتبط نحت مصطلحها بمحدودية الملاحظة الإنسانية التي لا تدعم بأي حال من الأحوال طموحات الزاعمين بفوضى الوجود الإنتروبي أو الكمومي الظاهري السلوك على حد سواء. كما أنه من الضروري التنويه هنا أن العشوائية والفوضوية المذكورتين آنفا اللتين يعتقد انهما تزيدان مع زيادة الإنتروبي هما في رأيي ليستا كذلك كما يعتقد وأنما هما عبارة عن سلوكيات معرفية غير انطولوجية تنتج بسبب محدودية الملاحظة الإنسانية من ناحية واستحالة رصد الإنسان لكافة المتغيرات قيد النظر تجريبيا أو إمكان سبرها واعتبارها وتحليلها والجزم بها بشكل مطلق من ناحية أخرى.
كما أنها أي العشوائية والفوضوية الانتروبية أو الكمومية تحديدا لا تتعدي كذلك في رأيي المتواضع كونهما مجرد سلوكيات احتمالية ظاهرية السمات ذات أصل ربما حتمي خفي الطبائع والطبيعة تصاغ نماذجها بدقة وفق توزيع رياضي منضبط يجسد في نهاية المطاف الاصول الحتمية التكوينية الخفية لتلك السلوكيات الانتروبية والكمومية الاحتمالية المساقات. كما أنهما حسب اعتقادي تعدان من منطلق آخر شكلا كموميا من أشكال الحتمية الإدراكية الكونية الموجية غير الجسيمية التي تتجسد في صور احتمالية بحيث لا يمكن لهذا التجسيد الملاحظ تجريبيا أن يبطل بأي حال من الاحوال حقيقة حتميتها حتى وإن تقمصت تلك الصور في نهاية المطاف تجاوزا أشكالا من الاحتمالات الإدراكية المعرفية غير الانطولوجية المنبت والنشوء. بل تظل جميع فرص الاحتمالات الموسومة بالعشوائية صورا مقيدة بحالات يحكمها في تصوري نظام حتمي يتحرك داخل سياق مقدر لكل من الخلق والوجود ونبض الزمن. ومن الجدير بالذكر أن بعض الفيزيائيين المعاصرين لا يؤيدون بالطبع ما سردته آنفا بل يرون أن «العشوائية الكمية» تحديدا ليست مجرد تعبير عن محدودية ادراكاتنا بل هي جزء من طبيعة الواقع في بعض المقاييس وليست في كلها.
ولكن من جانب آخر هناك بعض من الفيزيائيين والفلاسفة المعتبرين من يؤيدون ما رميت اليه أعلاه فيرون أن العشوائية هي سلوكيات سطحية تظهر في مستوى القياس ولكن على المستوى العميق تخضع لحتمية خفية ربما لم تكتشف بعد.
ولعل من أهم ا لتفسيرات المعارضة لفكرة العشوائية الانتروبية او الكمومية تحديدا ما يعرف بتفسير بوهم الذي ينص على أن هناك متغيرات خفية تحدد الأمور تمامًا ولكن لا يمكن الوصول إليها، ولذلك تعد وفقا لهذا التفسير ظاهرة حتمية التكوين أصلا. ومن التفسيرات المرجعية الأخرى التفسير المعروف بالعوالم المتعددة الذي يرى أن العشوائية تحدث نتيجة لتجزئة الواقع، ولكن بالنظر على المستوى الإجمالي نجد أن كل شيء في نهاية المطاف هو حتمي الأصل والتكوين. وهنالك بعض العلماء الذين أتخذو من هذه المسألة موقفا وسطا معلنين أن العشوائية في الأرجح تتألف من مزيج ثنائي التكوين حيث يعد الجزء الأول من ذلك المزيج تعبيرا عن قيود معرفتنا بينما يعكس الجزء الثاني منه خصائص عميقة في الواقع وخصوصا في العالم الكمومي وأنساق الإنتروبي. وأختم هذه الشواهد بمثال حيوي من الأمثلة التطبيقية المعتبرة التي تدحض الفكر الإنتروبي او الكمومي العشوائي ألا وهو على سبيل المثال لا الحصر دوران الالكترون في تكميم الزخم الزاوي الذي يتخذ قيما رقمية دقيقة التسلسل رياضيا. وبناء على ما سبق ذكره من آراء يمكن القول بعدم وجود إجماع نهائي بين العلماء حتى الآن حول التفسير «الصحيح» للعشوائية بمختلف احتمالات مساقاتها الانتروبية والكمومية عل حد سواء، فهي تصف عند البعض ما نلاحظه بينما تعكس عند البعض الآخر خصائص لوقائع حتمية عميقة.
ولذلك نجد من العلماء من يعتبر العشوائية مفاهيم مرجعية أو مقاييس يتم توظيفها في أغلب الأحايين بطريقة رمزية أكثر من توظيفها كوصف صوري دقيق لخصائص مادية بحته. وعلى كل حال، فمهما تختلف الأراء أو تتفق في هذه المسألة الفكرية الكؤود فإنني اعتقد أن كل من ينظر الى الفضاء وما دونه من الموجودات بعين الفكر سيدرك أن مبدأ الحتمية هو القانون الأوحد الذي يعزف عليه الوجود سيمفونية نبضه من أول ذرة بزغت فيه إلى آخر نجم يهوى في غياهب صمته الابدي الممتد على حافة العدم. ولذلك فالزمن من هذا المنطلق كغيره من الأحداث الكونية لا يضل طريقه ولا يخطئ مساره وإن تبدو أحداثه أحيانا مزيجا من الاحتمالات التي تهتز أوتارها انتروبيا أو كموميا على حافة اللايقين وفق إيقاعات تمر كخط من ضوء على لوح قد كتبت فيه حتمية كل شيء بقلم واحد منذ الأزل.