أ.د.عثمان بن صالح العامر
شهدتْ الكرة الأرضية يوم الأحد الماضي 16 نوفمبر تظاهرة سنوية عالمية، عنوانها العريض (اليوم العالمي للتسامح)، إذ في هذا التاريخ من عام 1995م اعتمدت الدول الأعضاء في اليونسكو إعلان مبادئ التسامح، وقرَّرت الأمم المتحدة بمبادرة من اليونسكو اعتبار السنة نفسها سنة الأمم المتحدة الدولية للتسامح، ولذلك فهذا المصطلح ذو صبغة عالمية، يكتب عنه هذه الأيام الكل، بجميع اللغات وفي جميع منافذ التعبير الافتراضي منه والحقيقي، ويحتفي ويحتفل به العامة كما يهتم به الخاصة، سواء أكان الاحتفاء والتعاطي معه بهذا المسمى أو تحت مصطلح «التعايش مع الغير» أو «التواصل بين الذات والآخر»، أو «السلام العالمي»، أو «التعارف الدولي»، أو حتى «العولمة الثقافية» أو غير ذلك.
وهذا الموضوع -أعني التسامح على المستوى الشخصي وكذا الدولي- من أكثر المواضيع تشعباً واتساعاً، وكلٌّ يطرقه من زاوية تختلف عن الأخرى، وعلى أساس مرجعية عقدية وأيديولوجية تباين غيرها، فهو حاضر لدى السياسيين، وموجود في كتابات المختصين في علم الاجتماع، ويتحاور حياله المثقفون والمفكرون وغيرهم، وهو قبل هذا وذاك حاضر في علاقة كل منَّا بمن حوله، قربت المسافة منه أو أنها كانت بعيدة، ولذا أرى لزاماً أن يكون حديثنا عن هذه القيمة الأخلاقية العظيمة التي حثَّ عليها الإسلام يبدأ من أنفسنا داخل بيوتنا، ثم تتسع الدائرة لتشمل علاقاتنا بالأقارب وذوي الأرحام، بالجيران، بالزملاء في العمل، بالأصدقاء رفاق الدرب، بل تتسع الدائرة لتشمل جميع من نقابلهم في شارع الحياة، ليس هذا فحسب لنسامح الموتى في قبورهم، لنسامح من أساؤوا لنا يوماً ما.
فمشكلتنا الحقيقية، ومصيبتنا العظمى أن تصفية الحسابات بين بَعضُنَا البعض لا تنتهي في هذه الدار (الدنيا)، بل هناك في الدار الآخرة ستفتح الملفات، وتنشر الصحف، ويأخذ كل مظلوم ممن ظلمه أو أخطأ عليه حقه كاملاً غير منقوص. والحاكم العدل الذي سيفصل بين الخلائق، ويعيد الحقوق لأصحابها في ذلك اليوم المشهود يوم الصاخة، القارعة، الغاشية، هو الله عزَّ وجلَّ، والشهود على كل ما فعلناه في غيرنا أطرافنا، والميزان الرباني يزن كل شيء حتى مثاقيل الذر، والمقابل الحسنات والسيئات، وكل شيء فعلناه أو قلناه أو حتى هممنا به وحدثنا أنفسنا فيه ونويناه في كتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49) سورة الكهف.
ولخطورة الأمر، وعظم شأنه، وشدة وقعه على الإنسان، كان من نبي الرحمة المهداة -الحريص على أمته- الإرشاد إلى ما فيه السلامة والنجاة في هذا الأمر بالذات، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري.
لنشيع بيننا (ثقافة التحلّل من بَعضُنَا البعض)، ولا ننتظر لحظة دفن أحدنا بعد موته، حتى نسمع في المقبرة من ينادي بالناس (أحلوه) وهم يرفعون الصوت مستجيبين لهذا الطلب (بحل.. بحل). فكلنا ذلك الإنسان الذي سخر، اغتاب، أخذ حقاً لآخر من غير وجه صحيح، لعن، سب، اتهم، ضرب، كذب، سرق، عرّض بشخص في تويتر تحت اسم مستعار، تهجم على آخر من أجل مصلحة شخصية بدعوى المصلحة العامة زوراً وبهتاناً، قال أو تقول أو شهد أو جحد أو... فالدنيا بين مد وجزر، والصراع فيها على زخارفها لا يخفى ولأسباب لا عد لها ولا حصر -كما هو معلوم- ونحن في النهاية بشر ولسنا ملائكة (وكل بني آدم خطاء، وخير الخطَّائين التوابون) وشرط قبول التوبة فيما هو متعلِّق بأحد من الناس أن يستحله ويسمح له عن طيب نفس وهو بكامل قواه العقلية ومداركه البشرية، إذ إن (حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، خلاف حقوق الله فهي مبنية على المسامحة)، ولكون الأمر كذلك فإنني أتطلع وأتمنى مثل ما يتمنى غيري كثير في هذا المجتمع أن تشيع المسامحة بين الناس خاصة أن الله عزَّ وجلَّ قال عن من قبل الاعتذار ممن جاء متحللاً {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى، ومن أكرم من الله عزَّ وجلَّ، ومن أجود وأعظم عطاء من الرب الرحيم سبحانه وتعالى.
أعلم أن هذا قد يكون صعباً على النفس البشرية، ولكن حين تحضر النيَّة الصادقة، ويملك الإنسان الشجاعة، ويتدثر بالصبر، ويتسم بالحلم، ويتذكر قول الله -عزَّ وجلَّ- {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (40) سورة الشورى.. ومَن سيعطيك على صنيعك هذا أكثر وأجزل وأعظم من عطاء الرب سبحانه -عزَّ وجلَّ-؟، أقول حين يجتمع هذا كله في ذهنية الواحد منا فسينتصر على نفسه لا لنفسه، وسيترك حظوظها الآنية الحاضرة رغبة بما عند الله في الآخرة.
ومن هذا المقام أسامح كل من أخطأ في حقي يوماً ما قولاً أو فعلاً أو حتى بالإشارة والرمز، في حضوري أو حين غيابي، وأسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقني مسامحته سبحانه وتعالى على تقصيري وتفريطي وتهاوني في أداء ما أوجب علي وفرض، ثم يمن علي بمسامحة كل من أخطأت في حقه في هذه الحياة منذ نعومة أظفاري حتى الرحيل من هذه الدار، وإلى لقاء، والسلام.