د.عبدالله بن موسى الطاير
الممثل السوري حسني البورظان، قال ذات يوم: إذا أردنا أن نعرف ماذا يدور في إيطاليا فعلينا أن نعرف ما ذا يدور في البرازيل، أما الجغرافي البريطاني اللورد ماكندر فكتب أن «من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض (وسط أوراسيا)، ومن يسيطر على قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية (قارة إفريقيا)، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يسيطر على العالم».
خارطة طريق استعمارية استخدمت الجيوسياسية للهيمنة على العالم عن طريق القوة البحرية تحديدا. فهل لا تزال معطيات القوة في خواتيم القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين سارية في القرن الواحد والعشرين؟
الواقع، أنه في زمن تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، وتسيطر الطائرات المسيّرة والصواريخ فرط الصوتية على سماء المعركة، لا يزال فكر ألفريد ماهان وهالفورد ماكيندر ملهما للمخططين الإستراتيجيين الغربيين والشرقيين. رسخت عقيدة ماهان البحرية عام 1890م الأساس لفكرة التحكم في البحار للهيمنة على طرق التجارة، وهو ما انعكس اليوم في السيطرة الأمريكية على الممرات البحرية الاستراتيجية، والتوسع البحري الصيني على سبيل المثال.
أما نظرية «قلب الأرض» التي ابتكرها ماكيندر عام 1904م، فترى أن من يهيمن على قلب أوراسيا يمتلك مفاتيح القوة العالمية. فهل ستفسر لنا خطط الماضي وإن تقادمت، تعقيدات الحاضر ومآلات المستقبل؟ معالم التنافس الدولي تتوزع بين القوى البرية والبحرية، حيث تتحدى روسيا والصين النفوذ الأمريكي من خلال استراتيجيات اقتصادية وعسكرية معقدة. هذا الصراع يتجاوز إرث الحرب الباردة، ويهدد بتصعيدات تساهم فيها تقنيات متقدمة ومعقدة.
جوهر التنافس الجيوسياسي يتضح في الصراع على حيازات جغرافية استراتيجية تتحكم في الموارد وممكنات النفوذ. منطقة قلب الأرض بحسب ماكيندر، الغنية بالموارد والواقعة في وسط أوراسيا، قد تشكل الدافع الرئيسي وراء التحركات الروسية في أوكرانيا، التي تعتبرها موسكو خط الدفاع الأول أمام خطر تطويق الناتو.
في المقابل، تمزج الصين بين الرؤية البرية لماكيندر والسيطرة البحرية كما تخيلها ماهان، فتعزز مبادرة الحزام والطريق التي تربط آسيا الوسطى بالممرات البحرية بين الهندي والهادئ. أما الولايات المتحدة، فتسعى من طرفها، عبر تحالفات مثل تحالف أمريكا، استراليا، الهند واليابان المسمى QUAD والتحالف الثلاثي AUKUS الذي يضم أمريكا وأستراليا والمملكة المتحدة لإحكام سيطرتها على نقاط الاختناق البحرية، منتهجة استراتيجية تنافسية صفرية في مجالات الإمدادات والطاقة والتقنية.
من جانبها، تجد روسيا، في دفاعها عن قلب أوراسيا، في الصين شريكاً رئيسا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري ذروته، إلى جانب التعاون في مجال التكنولوجيا العسكرية، كما تعزز روسيا نفوذها عبر مشروع «أوراسيا الكبرى» الذي يشمل بيلاروسيا وكوريا الشمالية.
وعلى الرغم من أن المشهد العام يضع الصين وروسيا في حلف مقابل لأمريكا وأوروبا، فإن علاقة البلدين تكتنفها صعوبات وتعقيدات وتنافس في التفاصيل لا يمكن تجاهلها.
الصين سلكت لتعزيز نفوذها الجيوسياسي طريقاً يجمع بين القوة البرية والبحرية؛ فهي تمتلك الآن أكبر أسطول بحري في العالم، وتضيف طرادات حديثة لتعزيز سيطرتها على 80 % من طرق التجارة البحرية الممتدة من جوادر (غوادرا) إلى جيبوتي، وعلى الرغم من التفوق العددي للأسطول الصيني، فإنه لا يفوق قوة وقدرة البحرية الأمريكية.
الولايات المتحدة الأمريكية التي وضعت مصالحها أولا، وابتعدت عن جوارها الجغرافي والأيديولوجي بسبب سياساتها الحالية، وحروبها الاقتصادية، تواجه شبه منفردة تحديات الصين وروسيا مجتمعتين، إذ تواصل محاصرة قلب آسيا استراتيجياً، وتوطد علاقاتها مع آسيا الوسطى، حرم النفوذ الروسي، مع الحفاظ على تفوقها البحري. قدمت أمريكا عشرات المليارات مساعدات لأوكرانيا منذ عام 2022م، وعززت من قوة الناتو في مواجهة موسكو. وفي آسيا، تعتمد واشنطن على الأسلحة المتطورة والتحالفات لاعتراض الصعود الصيني، فيما تظل تايوان نقطة اشتباك محتملة.
تتزايد احتمالات التصعيد بين القوى الثلاث نتيجة الأزمات في أوكرانيا، والشرق الأوسط، وتايوان، وإفريقيا، وهي بؤر تأزم قد تدفع التكنولوجيا الصراع فيها نحو ساحات الحرب السيبرانية أو الاقتصادية بدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة.
في ظل غياب الحلول الدبلوماسية، وتباعد المواقف، وغياب حوار مسؤول بين القوى الثلاث، يظل خطر انهيار النظام الدولي قائماً، مؤكداً صوابية رؤى ماهان وماكيندر حول أهمية السيطرة على المحاور الجغرافية الرئيسية لصناعة نظام متعدد الأقطاب، أو بلورة توازن بين القوى الكبرى التي سترسم ملامح المستقبل.