أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
الزمن ليس نهرا يجري كما يُعَرِّفه البعض أحيانا، بل موجة وعي تكشف في رأيي عن المكتوب فكل لحظة زمنية نعيشها ليست خلقا جديدا آخرا بل إزاحة للستار عن زاوية من زوايا لوحة فسيفسائية تولد عنها الزمن بعد الفتق الفيزيوكوني العظيم أو كما يعرف علميا بنظرية الانفجار العظيم (البج بانج) التي حدثت منذ 13.8 مليار عام.
والمدهش حقا أن العلم يقف إلى اليوم عاجزاً تماماً عن وصف حالة الزمان قبل زمن بلانك التي تعادل 10-43 جزء من الثانية الأولى بعد ذلك الفتق الذي لا يُعده العلماء حدثا لبداية «شيء داخل الزمان» بل هو بداية «الزمان والمكان نفسيهما».
ويعد زمن بلانك أقصر قياس زمني ممكن وهو يساوي الوقت الذي يستغرقه الفوتون للسفر بسرعة الضوء مسافة تعادل طول بلانك الذي يساوي 1.616252×10*35 من المتر. وعلى أية حال، ففيزياء نيوتن تنظر إلى الفضاء على أنه خلفية ثابتة ثلاثية الأبعاد فيها توجد الكائنات وتتحرك كالموجة في الآفاق حيث يعد الزمن فيها بعداً كونياً مطلقا منفصلا عن المكان. بل أن الزمن يتمثل عند نيوتن في هيئته نفسها في كل الاحوال لكل المراقبين بغض النظر عن أماكن الرصد والمراقبة، ويتحرك بالمعدل نفسه بشكل مضطرد دونما علاقةٍ له بأيّ شيءٍ خارجيّ.
ولقد تطور الفهم البشري للزمن بعد نيوتن بعدة قرون تطورًا جذريًا لا سيما عقب ظهور نظريتي أينشتاين المعروفتين بالنسبية الخاصة والعامة اللتين أعادتا في بداية القرن التاسع عشر الميلادي صياغة علاقة الفضاء بالزمن. فأوضح إنشتاين في النسبية الخاصة تحديدا أن الزمن بعدا نسبويا غير مطلق على الرغم من كون القوانين التي تحكمه زمكانيا ثابتة في كل الأطر. كما أوضح أيضا أن الفضاء والزمن كيانان مرتبطان ببعضهما ديناميكيا عبر نسيج رباعي الأبعاد غير ساكن ودائم التوسع يسمى «الزمكان» الذي تعتمد رؤية الأشياء فيه على سرعة المراقب. فلو تم مثلا تعيين مراقبين اثنين أحدهما ثابت والآخر متحرك المرجع لرصد حدث كوني ما، فإن كل واحد منهما يرصد الحدث نفسه في الزمان والمكان بطريقة مختلفة عن الآخر ما يعني ان الزمان إذن ليس شيئا خارجنا كما تصوره نيوتن أو وهما من أوهام الوجود كما تصوره بعض أتباع إنشتاين المحدثين. كما تؤكد النسبية الخاصة أن الزمن ليس ثابتاً بل يتمدد أي يمر أبطأ بالنسبة للمراقب المتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء مقارنةً بمن هو ساكن. وهذا يعني أن الواقع الفضائي الزمكاني المقيس يرتبط إذن ارتباطا وثيقا بسرعة الاجسام في الفضاء، فكلما زادت تلك الحركة منسوبة إلى سرعة الضوء كلما تباطأ الزمن كما أسلفت. فإذا وصلت تلك السرعة إلى الحد الذي تتجاوز فيه الحاجز الاقصى لسرعة الضوء وهو أمر يستحيل حدوثه، فسيصبح من الممكن للبشر إن، حدث ذلك، رؤية الزمكانيات السحيقة الماضية التي سبقت حواضرنا ربما بمقادير قياسية قد تتراوح من جزء ضئيل من الثانية إلى ازمنة قد تفوق دون مبالغة مليارات السنين من عمر الكون. والعكس صحيح أي كلما انخفضت حركة الأشياء مقارنة بسرعة الضوء كلما أصبح من الممكن للبشر رؤية المستقبل البعيد عنا ربما بمليارات السنوات الضوئية. هذا يعنى أنه بإمكاننا، بناء على ذلك، مشاهدة ما حدث أو ما سيحدث في كل لحظة من لحظات دوران الأرض حول نفسها، وحول الشمس، والشمس حول المجرة، والمجرة حول مركز المجرات، والمجرات حول مركز الكون وهلم جر.
والمدهش حقا في هذه المقاربات والمفارقات الفيزيوزمنية هو استبدال إنشتاين في نسبيته العامة فكرة نيوتن للجاذبية كقوة بقانون ينص على أن الكتلة والطاقة تقومان بحني النسيج الزمكاني للفضاء، وأن الأجسام جميعها تتحرك استجابة لهذا الانحناء. أي بمعنى آخر أن الأجسام لا تنجذب لبعضها البعض كما تصور نيوتن، بل تتبع حسب إنشتاين خطوطًا جيوديسية تمثل أقصر المسافات في المنحنى الزمكاني. فعلى سبيل المثال لا تسحب الشمس الأرض إليها، بل الأرض تدور حول الشمس في مسار داخل انحناء النسيج الزمكاني الذي تسببه كتلة الشمس. ويبقى من الضروري عند هذا المقام من المقال التنويه إلى أن نسبيتي إنشتاين الخاصة والعامة قد نجحتا بشكل باهر في وصف البني الكبيرة للفضاء كالمجرات والثقوب السوداء والنجوم والكواكب رغم عجزهما الذريع بحكم مجاليهما التنظيري في وصف فضاءات المستويات الصغيرة جدًا كالذرات والجسيمات ما تحت الذرية. وهنا تتجلى ميكانيكا الكم لتقدم رؤية فيزيوكونية مغايرة يتم التعامل مع الزمن فيها كعنصر خارجي لا يتأثر مباشرة بالجسيمات ما تحت الذرية.
مع كل ذلك التطور المعرفي الذي شهدته البشرية في مختلف مجالات العلاقة بين الفضاء والزمن، فلا تزال هنالك مفارقات أزموية تحد من عمق العلاقة بين التصورات الذهنية الموجهة بالخبرات الادراكية للزمن من ناحية والمضامين الفيزيائية الحديثة بمختلف قوانينها وتنوع نماذجها الرياضية من ناحية أخرى. فيتحرك الزمن في الواقع المشاهد المقيس وفق تصورات البشر الذهنية الموجهة بخبراتهم الادراكية بشكل منتظم في اتجاه حتمي غير عكوسي من ماضِ ضائع تائه في غياهب الدهور إلى حاضر برهيٍ متفلتٍ غيرَ مستقرٍ زمكانياً ومستقبلٍ عدميٍ غيبيٍ مجهولِ المدى. وعلى الرغم من ذلك، لا تعترف بعض القوانين الفيزيوكونية المعاصرة البتة باتجاه معين للزمن أي انها لا تعترف بالنسق المتجهي الزمني المشاهد المقيس من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. ويعزي السبب في ذلك إلى أن استبدال القيم الموجبة للزمن في بعض نماذج تلك القوانين الفيزيوكونية بما يناظرها من القيم السالبة لا يفرز بالضرورة في المقابل نتائج فيزيوزمنية مختلفة بل على العكس من ذلك يعطى نتائج متماثلة لا تتغير بتغير متجهات قيم الزمن المستخدمة في تطبيقات تلك القوانين. بل تفترض بعض تلك القوانين اجتماع الماضي والحاضر والمستقبل دفعة واحدة ضمن مجال زمني ائتلافي آنيٍ كوني حتمي موحد يماثل تماما ما كان عليه الحال من قبل في نقطة التفرد الاولى التي سبقت وهلة الفتق الكوني العظيم. ومن غرائب الأمور أن تُعِدَّ بعض الأطر المرجعية الزمكانية الفيزيوكونية المعاصرة، التي أبتدع إنشتاين خطوطها العريضة في نِسبَوِيَّتَيه الخاصة والعامة، الزمن وهما أو احتمالا موجودا في الذهن فحسب ولا مكان له من الإعراب في الواقع الفيزيوكوني الزمكاني الإدراكي المقيس. ولكن تلك الأطر المرجعية تقر رغم تناقضها في الوقت نفسه مع ما سبق رفضه، بتحرك الزمن من الماضي إلى المستقبل نتيجة للانتروبي المعروف بـ(القانون الثاني للديناميكا الحرارية المسبب لاعتلاج الأنظمة أو قصورها الحراري) الذي كلما تقدم به الدهر زادت عشوائية انساقه الزمكانية وتضخمت فرص احتمالاته وتكرست بسببه الفوضى في الأشياء فتميل الأنظمة الفيزيوكونية تلقائيا نتيجة لذلك نحو الحالات الاكثر اختلاجا واضطرابا بمرور الوقت. وهو أمر يؤدي حسب تلك الأطر إلى اتجاه الزمن كغيره من انساق الطبيعة الفيزيوكونية الأخرى بشكل غير عكوسي إلى أكثر احتمالات الإنتروبي عشوائية أو فوضوية ولس إلى اكثرها ترتيباً أو انتظاما أو بعبارة أخرى إلى ما يعرف فيزيائيا بسهم الزمن الثرموديناميكي الأحادي الاتجاه.