د. سامي بن عبدالله الدبيخي
تحظى مكة المكرمة بأعلى مراتب القدسية في الإسلام فهي بيت الله الحرام {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}. فهي بهذا محمية ربانية -يحفظها الله تعالى- منذ خلق السماوات والأرض، وهي أيضًا محمية بيئية كما جاء في رواية البخاري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- «حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... لَا يُعْضَدْ شَجَرُهَا...».
هذه الحماية الربانية تمثل نموذجًا إسلاميًا رائدًا للمحافظة على البيئة واستدامتها، حيث يحرم الإضرار بالكائنات الحية مما يمثل معالجة لقضايا اليوم الشائكة كالإخلال بالتنوع البيئي وقطع الأشجار بلا ضرورة. تمتدُّ هذه الحماية إلى الجبال المحيطة، التي تُشكِّلُ حُصُونًا جغرافية وشواهد تاريخية تعزِّزُ هويتها الروحانية مشكلة متحفًا مفتوحًا يحكي قصص الأنبياء مما يقتضي الحماية من التعديات العمرانية التي تهدد تراثها كما فصلناه في مقالات سابقة لنا مثل «جبال مكة: تكريس لشخصيتها» و»مكة المكرمة: محمية ربانية».
إلا أن قدسية المكان وحرمة مكوناته لا تعني الإخلال بالضرورات الشرعية واستمرار عجلة التنمية وهذا ما فُهم في زمن الصحابة حيث تجلى التوازن بين الحماية البيئية والحفاظ على المصلحة الشرعية والتنموية: فقد أمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقطع شجرة لإزالة ما تمثله من إعاقة للْمتطوِّفين مفاضلا بذلك المصلحة الدينية العليا، وفعل ذلك أيضا عبدالله بن الزبير بقطع عدة أشجار لغرض السكن؛ وهذا ما وضحه الباحث عبدالعزيز العتيقي في بودكاست بدون ورق.
يتجسد هذا التوازن اليوم في العديد من المشاريع التطويرية والتنموية التي توائم بين الحفاظ على البيئة واستدامتها وتحقيق المصلحة العامة كما أوضحناه في مقال آخر لنا مثل «Making Makkah Greener» والدعوة لغرس الأشجار لتلطيف الجو واستعادة التنوع البيئي، بالإضافة إلى تقليل الانبعاثات الكربونية بتطوير المترو والنقل العام بالحافلات الهيدروجينية مع معالجة النفايات وإدارة الحشود بكفاءة عالية، تحقيقًا للتوفيق بين متطلبات التنمية العمرانية ومقتضيات الحماية البيئية والمحافظة على الضرورات الشرعية.
بهذه المنهجية، ستبقى مكة محافظة على قدسيتها الأبدية كمحمية ربانية مع الموازنة بين قدسية المكان وحماية البيئة والحاجة التعبدية الملحة. وهذا ينسجم مع ما قام به الصحابة عليهم رضوان الله الذين أكدوا أن الحماية البيئية ليست مطلقة بل مرنة تبعًا لمقتضيات المصلحة الشرعية والتطويرية كما أشرنا إليه أعلاه حيث تفوقت المصلحة الدينية التعبدية والتطويرية على حماية الأشجار من القطع. وتتجسد هذه القدسية اليوم، في مشروع مكة الخضراء التي تهدف لغرس الأشجار لتعزيز هذه الحماية البيئية والتنوع البيئي واستدامتهما. بهذا المعنى يكون مفهوم الاستدامة في مكة لا يقتصر فقط على استدامة البيئة بل يمتد أيضًا إلى استدامة قدسية المدينة وروحانيتها ومجتمعها واقتصادها وعمرانها.