عبدالله العولقي
خرج الشابُّ بشارةُ الخوري من بيتهِ مُسْرِعاً تجاهَ حلقةِ شيخهِ إسكندر العازار، فلديه اليوم قصيدة نظمها ليلة البارحة ويريدُ أنْ يُسْمِعُها شيخه، فقدْ كانتْ هذه الحلقة التعليميّة بمثابةِ الصّالونِ الأدبيِّ في قريتهم الصغيرةِ (إهمج)، كانَ الشيخُ إسكندر العازار أديباً يُقرضُ الشعرَ ويعارضُ كبارَ الشعراء في زمانه، كما كانَ روايةً يحفظُ مئات الحكايا والنوادر الأدبيّة، وكان شبابُ القريةِ يتنافسونَ فيما بينهم على عرضِ قصائدهم ونتاج قرائحهم على أديبِ القرية، كان الشيخُ يرفضُ شاعريّة بشارة الخوري ويرى أنّ أخاه سليماً أجدر بالشعر، أمّا بشارة فمجاله هو الصحافة التي كان يهواها ويملؤها في ذلك الزمان المبكّر بمقالاته الوطنية، لكنّ بشارةَ لمْ يقتنعْ بمجالِ الصّحافةِ وحده، ولمْ يُصْغِ أبداً لنصيحةِ شيخه! بلْ ظلّ يكتبُ محاولاته الواحدة تلو الأخرى حتى اقتنعَ الشيخُ إسكندر العازار أخيراً بموهبته حين أنشده:
عشتَ فالعبْ بشعرها يا نسيمُ
واضْحكي في خدودِها يا كرومُ
وحينها هتفَ الشيخُ أمام الناسِ بمقولته الشهيرةِ: ما زالَ بشارةُ يهذي ويهذي، حتى نطقَ الشعرَ أخيراً!
عندما سألَ أحدُ الصحفيّين اللبنانيّين الموسيقارَ محمّد عبدالوهاب عنْ أهمّ الشعراء الذينَ تعاملَ معهم، عَدّدَ مجموعةً من الشعراءِ منهم أحمد شوقي وأحمد رامي والهادي آدم وجورج جرداق وغيرهم، ولمْ يذكرْ اسم الأخطل الصغير، فتعجّب الصّحفيُّ! وقال: لماذا لمْ تذكرْ الأخطلَ بينهم وقد لحّنتَ له أكثر من قصيدة؟، فأجابه عبدُالوهاب، لمْ أُلحّن للأخطل لأنّ قصائدَه جاءتني مُلحّنةً جاهزة، وأنا أدّيتُها فقط، كإشارةٍ إلى المُوسيقى العذبةِ داخل شعره، ولهذا تُعتبرُ هذه الميزة الموسيقيّة داخل شعر الأخطل هي السّمة النوعيّة التي تفرقه عنْ شعراء جيله، فهو شاعرٌ مطبوعٌ يتغنّى من عُمْقِ بيئته اللبنانية، فهو السّهلُ المُمْتنعُ في الأسلوب، والاستطرابُ الفذُّ في رنين القوافي، فقدْ وُلد في قرية إهْمِج بقضاءِ جبيل التابع لمحافظة جبل لبنان، هذه القريةُ الصغيرةُ التي تحْتضِنُها التلالُ الخضراءُ منْ كلّ الجهات، ويعشقُ أهلُها الأدبَ والشعرَ حتّى قيل إنّ سكّانَها كُلُّهم شعراء!، فجميعُهم هنا يعشقون النغمة الموسيقيّة وترِفُّ أفئدتهم طرباً للشعر والأدب، فهكذا عاشَ أديبُنا الكبير بشارة الخوري وسط هذهِ الأجواءِ التي خَلقَتْ بداخله رُوحَ الفنانِ المتناغمِ مع الجمال، وصاحب الإحساسِ المُرْهفِ مع النغمةِ والإبداع، فيحكي الأستاذُ مصطفى أمين في مذكّراته أنه زارَ الشاعرَ الأخطلَ الصغير في قريته اهمج، فأدهشتْه الطبيعةَ الخلّابةَ هناك، فقالَ للشاعرِ: لقدْ عرفتُ الآنَ سرَّ قصائدك البديعة، وأدركتُ مِنْ أينَ تستوحي خيالك البديع؟، فتغيّر وجهُ الشاعر!، وقال على الفور: يا أستاذ مصطفى، يجبُ أنْ تعرفَ أنّ أجملَ قصائدي قدْ نظمْتُها مساءً قبيل النوم ولسْتُ وأنا استمتعُ لهذه المناظر الخلّابة، وقصائدي الأخرى أنشدُتها وأنا واقفٌ على شُرفة مكتبي في ساحةِ الشهداءِ ببيروت! فهكذا كان شاعرُنا الكبير يُنْكرُ أثرَ الطبيعة الخلاّبة وجمالها في شعره!
كما تكمنُ ميزة شاعرنا بشارة الخوري الإبداعيّة في قدرته الذهنيّة على ابتكارِ المعنى المدهش، وتفرُّده بالأسلوبِ الخاصّ به والذي لمْ يسبقْه إليه أحد، بالإضافة طبْعاً إلى موهبته الموسيقيّة التي يبثُّها داخل النّص الشعريِّ بلمسةِ الفنّانِ، فنجِدْهُ مثلاً يُبْدِعُ في استعمال (المثنّى) كقافية للقصيدة كما في قصيدته الشهيرة:
أتت هندُ تشكو إلى أُمّها
فسبحانَ من جمّع النيرينِ
هنا نجد كلّ قوافي القصيدة تتشكل على هيئة (المثنّى): «خصْلتين، نجْمتين، مقْلتين، رمّانتين، ورْدتين، برْدتين، وهكذا»، وهذا ما لا نجدْهُ عند غيرهِ من الشعراءِ إلّا نادراً، ففي هذهِ القصيدةِ نجدْهُ يُبْدعُ في الهندسة الشعريّة لحواريّةٍ جريئةٍ بين الأمِّ وابنتها هند، هذه الحواريّة المُتَخيّلة بين عاملي: الزمان والمكان، وهنا تكمنُ عبقريّة الأخطل الصغير الشّعريّة وثرائه الفكري والثقافي، فنجدُ أنّ شكوى هند لأُمّها تتضمنُ خطاب الشكوى من عاملِ الزمن، عبرَ نور النّهار المتمثل في الضُّحى:
فقالت لها: إنّ هذا الضُّحى
أتَاني وقبّلني قُبْلَتين
أو عبر ظلامِ الليلِ المُتمثّلِ في الدُّجى:
وفرَّ فلمّا رآني الدُّجى
حَبَاني، وقبّلنِي قُبْلَتين
ليتنقلَ بعدها مباشرةً إلى عاملِ المكان، إلى الروض الأخضر، والغُصْن، والورودِ، والبحرِ، وهكذا هي الإبداعيّة الهندسيّة في أدبِ بشارةِ الخوري، أمّا تغذيته للّونِ داخل قصائدِه فسَنجدُ لها باباً آخر في الروعة والفن، حيثُ نجدُ له في عدّة قصائد غزليّة توازناً بديعاً بين اللونين الأسود والأخضر، وأعني الأسود المتمثّلُ في صورةِ الدجى الذي يُكرّرهُ كثيراً في شعره:
سلِ الدُّجى كمْ راقني ندْمُهُ
لما حَكَى مبْسمُه مبسمَك
وله قصيدةٌ شهيرةٌ بعنوان (يانسيم الدجى):
يا نسيمَ الدُّجى اللطيفِ احْتَمِلْني
لِيَ عهدٌ عند النسيمِ لِزامُ
وبين اللون الأخضر المتمثل في الروض أو الطبيعة عموماً:
أغضَاضَةً يا روضُ إنْ
أنا شاقني فشَمَمْتُ ورْدكْ
ويقولُ في بائيّته الشهيرة عن المتنبي في الحفلِ الذي أقيم إحياءً لذكراه في حلب:
أتُسْعِدُ الروضةَ الخضراءَ بلبلها
حتى يفي الروضة الخضراء ما وجبا
وأحياناً نجده يُوظّفُ اللون الأحمر المتمثل في الدم ضمن علاقات الحبِّ والغزل:
لو مرّ سيفٌ بيننا لمْ نكنْ
نعْلمُ هلْ أجرى دمي أمْ دمك؟!
أو يوظفه تقليدياً في حماسيّاته الوطنيّة:
ضحك المجدُ لنا لمّا رآنا
بدمِ الأبطالِ مصْبوغاً لِوانا
عرْسُ الأحرارِ أنْ تسقي العِدَا
أكْؤُساً حُمْرا وأنغاماً حَزانى
وهذه تكراريّة مُتعددة في أدبِ الخوري، ولكنّها تتعددُ بصورٍ مدهشةٍ ومتنوعةٍ في نفس الوقت، وهذه من خصائص الشعراء الكبار الذين يضعونَ بصمتهم المتميّزة عبر قاموسهم الشعري الخاص، فالتكراريّة هنا لا تقذفُ بالمللِ في ذات المتلقي بلْ تستمرُّ في منح الدهشة والإبداع!
أمّا تكوين الصورة الشعريّة عنده فهي صورةٌ متحركةٌ وليستْ جامدة، بمعنى أنّها لا تقتصرُ في تشكيلها على استعمالِ أدوات التشبيه المجرّدة، فميزةُ المشهد الحركي داخل الصّورة الشعريّة أنه يُضفي عليها بعداً جماليّاً عندما يصفُ نعومة الخدِّ بسلسلةٍ متواليةٍ من الأوصاف، وكلها تتعلق بالإحساسِ الفطريِّ الجماليِّ حيث يبتدؤها بنقاوةِ الفجرِ الضحوك:
أنقى من الفجرِ الضحوكِ
وقدْ أعْرت َالفجرَ خدّك
أو مثل رقةِ النسيم:
وأرقُّ من طبعِ النسيمِ
فهل خلعتَ عليه بُردك؟!
وألذُّ من كأس النديم
فهل أبحت الكأس شهدك؟!
كما اشتهر بشارةُ الحوريُّ بكثرة الألقاب التي حصدها طوال مسيرته الشعريّة، لكنّ لقبه الأخطل الصغير كان الأثيرُ عنده وأكثرُها التصاقاً به، وهو الذي أطلق هذا اللقبَ على نفسه! فكان يرى أنّ هناك تقارباً كبيراً بين روحه وشخصيّة الشاعرِ الأموي الشهير الأخطل التغلبي، عروبةً وديانةً وثقافةً وأدباً، كما عُرف أيضاً في الصّحافة العربيّة حينها بشاعر الهوى والشباب:
الهوى والشبابُ والأملُ المنشودُ
تُوحي فتبعثُ الشعرَ حيّا
والهوى والشبابُ والأمل المنشودُ
ضاعتْ جميعُها منْ يديّا
ولقّبه نقادٌ آخرون بشاعرِ القُبل لكثرةِ تردادهُ لها في شعره:
ما كانَ أحْلى قُبُلاتِ الهوى
إنْ كنتَ لا تذكرْ فاسألْ فمك!
ويقول في بيتين شهيرين عن القبلة الأولى:
إنْ كانَ أحلى الحبّ أولَ قُبلةٍ
ما ضرّهُ لو مات أوّل عمرِه
كالزهرِ مات مُكَفّناً بأريجِه
ووسيمِ نُضرتهِ ونشوةِ طُهْرِه
كمّا أنّه يحملُ لقباً أدبياً فاخراً وهو أميرُ الشعراء، وهذا اللقب قد حصده بعد وفاة صاحبه الأول أحمد شوقي بثلاثين عاماً، وتعودُ حكايةُ هذا اللقب إلى الحفلِ المهيبِ الذي رعته المنظمةُ الدوليّةُ للثقافةِ والفنونِ (اليونسكو) في بيروت عام 1961م، حيث اجتمعَ أساطينُ الشعرِ العربي حينها، يتقدمهم محمد مهدي الجواهري وعمر أبوريشة وأمين نخلة وسعيد عقل وصالح جودت وغيرهم، واتفقوا على منحِ إمارة الشعر الثانية لبشارة الخوري، فافتتح حفل المبايعة صديقه أمين نخلة ببيته الشهير:
يقولون: أخطلٌ وصغيرُ
أنتَ في دولةِ القوافي أميرُ
وكما غضبَ العقادُ وطه حسين على حافظ ابراهيم عندما بايعَ شوقي قائلاً:
أميرُ القوافي قدْ أتيتُ مبايعاً
وهذي وفودُ الشرقِ قدْ بايعتْ معِي
صبّ الأديبُ الشاعرُ أُنسي الحاج غضبه على هؤلاء الشعراء الذين نصّبوا الأخطل الصغير بإمارة الشعر! وفي الحقيقةِ أنّ مسألة إمارة الشعر ما هي إلا تكريمٌ رمزيٌّ لمسيرة الشاعر ولا تتخذُ شكلَ المقياس الأوحد في معياريّة الأدب، لكنّها في المقابل تُعطي رمزيّة على مكانته الشعريّة وتفوّقُ قصائده في بيئته الثقافيّة والأدبيّة، وهكذا كان شاعرُنا الأخطلُ الصغير.
لقد كتبَ بشارةُ الخوري الشعرَ في كافة فنونِه وأغراضه، ولكنّ ابداعاته وشهرته في الوطن العربي كانت من قصائده الغزليّة، فكانت فلسفتُه تجاه المرأة حسيّة، إذْ كانَ بارعاً في وصفِ الجسد الأنثوي مستمدّاً ثقافته من التراثِ العربي، لكنه كانَ شرقيّاً في نظرته للمرأة، فكان يرى في العفة الأنثوية جمَالاً آخر يُضافُ إلى جمالِها الجسدي:
هكذا فلتكن الغيدُ الحسانْ
عفةً في رقّة في أدبِ
ذلك الكنزُ الذي لا يُسْتهان
أينَ مِنْ ذلكَ كنزُ الذهبِ
وحُلىً كانتْ على صدرِ الزمانِ
فاستباحتها نساءُ العربِ
كما عُرف الأخطلُ الصغيرُ بمعاركه الأدبيّة مع النقاد وكذلك مع أقرانه الشعراء، خصوصاً أنّه كانَ وفيّاً للمدرسة التقليديّة وضدّ دعوات التجديد الحداثيّة في الشعر العربي، ففي أواخرِ حياته روت الصحافةُ اللبنانية أنّ الجامعة الأمريكية في بيروت دعته إلى حفلٍ تقرّر أنْ يلقي فيه الشاعرُ الشابُّ يومها سعيد عقل محاضرةً عن الشعر الرمزي، ثمّ يُلقي الأخطلُ الصغير قصيدته (عروة وعفراء)، وعندما انتهى الأخطلُ من قصيدته دوت القاعة بالتصفيق الحارِّ ابتهاجاً بإبداعيّة الشاعر، فتضايقَ سعيدُ عقل غيرةً من هذا الإعجاب، وعندما صعد المنبرَ قال مُخاطباً الجمهور:
أنا لا أقيمُ وزناً لشاعرٍ يعيشُ على ساحل ِالبحر الأبيض المتوسط، وتغسلُ أقدامَه الأمواجُ ويُكلّله صنينٌ بتيجانه، ثم يحمّلُ نفسَه عناءَ السفرِ إلى صحراءِ العرب ليُوشي بها قصائدَه، عندئذٍ صعدَ المنبرَ الأخطلُ الصغيرُ مرةً أخرى، وردَّ عليه بقصيدة عفويةٍ منها هذين البيتين:
ومعْشرٍ حاولوا هدْمي، ولو ذُكروا
لكانَ أكثرَ ما يبنونَ مِنْ أدبي
تركْتُهم في جحيمٍ مِنْ وساوسهم
ورُحْتُ أسحبُ أذْيالي على السُّحُبِ
فضجّت القاعةُ بالتصفيقِ الحارِّ مرةً أخرى! فهكذا كانَ شاعرُنا الأخطلُ الصغير، شاعراً فنّاناً ولكنْ لا أحدَ يستطيعُ مجاراتِه في فنّه وأدبه، فإبداعُه خطيرٌ من نوعِ السّهل الممتنع.