د.حسن مشهور
من ضمن الأمور التي تأخذ حيزًا من تفكيري في بعض خلواتي الفكرية بغية تأمل واقع الحالة الثقافية العربية، هي تلك العلاقة الملتبسة بين الشاعر والناقد، أو لأكون دقيقًا من وجهة نظر العلم وأقول بين النص والناقد. وهذا القول من وجهة النظر العلمية التي يتم تقبلها لدى الآخر. وأعني بالآخر دول الغرب، حيث ينظر المبدع للناقد بأنه منارة تمكنه من أن يرسو بسلام في ميناء الكتابة الإبداعية المتلاطم. أي أن الناقد هو المعين الذي يُمكِّن الكاتب ويقدِّم له تغذية مرتدة تمكنه سواء أكان شاعرًا، أو قاصًا، أو روائيًا، أو يمارس أي وسيلة تعبيرية إبداعية كتابية أخرى من أن يجوّد أدواته التعبيرية الإبداعية، وأن يصل بعمله الكتابي التالي إلى قمة الإبداع التعبيري الممكن.
وليس أدل على ذلك من تكاملية الفعل النقدي مع الإبداع التعبيري، من أن نتذكَّر بأن الشاعر البريطاني الشهير ت.إس.إليوت ربما لم يكن سيحصل على تكريمه المستحق «جائزة نوبل» في الأدب عام 1948م، وأن يعد واحدًا من أكثر الشعراء المؤثرين الذين غيروا واقع وشكل الشعر التقليدي العالمي إلى واقعيته الحداثية المشاهدة الآن، سوى تلك الخبرة التي زوّد بها وذلك النقد الموضوعي الذي تقبله بصدر رحب من الناقد والشاعر الأميركي الشهير عيزرا باوند.
ومن هنا، نفهم ذلك البعد الأخلاقي الذي أقدم عليه إليوت والمتمثل أولًا في أن يهدي قصيدته ذائعة الصيت «الأرض الخراب» لعزرا باوند في رسم كتابي عتباتي يحمل الكثير من الدلالة التعبيرية الوجدانية صادقة الامتنان. وأن يسعى ليقود حملة هو والعديد من شعراء وأدباء العالم للمطالبة بعدم إعدام الناقد عيزرا باوند جراء موقفه الشخصي بدعم الدوتشي الإيطالي موسيليني وباقي أعضاء الحلف الفولاذي في حربهم ضد حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي كانت تتزعمه دولة عيزرا الأم أي الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية.
وفي تقديري، بأن علاقة إليوت وعيزرا باوند هي علاقة أقرب ماتكون لتلك التي ربطت أبو الطيب المتنبي شاعرًا، وابن جني ناقدًا، مع فرق نوعي وهام يتمثل في أن وظيفة ابن جني النقدية قد كانت تتمحور في أن يكون الشارح لشعر المتنبي، فيه حين كان عيزرا هو من يراجع بعض قصائد إليوت وكان يشير عليه أحيانًا بتغيير تشطيره لبعض أبيات قصائده. بعبارة أخرى قد كان عيزرا باوند هو الشريك والمستشار والداعم سواء من خلال حرصه على أن يزود إليوت بخبرته النوعية، أو من خلال نشره لقصائد إليوت في المجلات التي كان يتولى إدارة تحريرها أمثال مجلة «الشعر»، ومجلة «إيقوست»، ومجلة «المنفى» التي كان هو المؤسس الرئيس لها، إلى جانب إشراكه لإليوت أيضًا في حركة «بلاست» الأدبية التي لعب فيها عيزرا باوند دورًا محوريًا.
على الجانب الآخر، أجدني انتقل للعام 1934م، وتحديدًا في مصر العربية وذلك حين نشر الشاعر الراحل إبراهيم ناجي ديوانه الأشهر «وراء الغمام»، ذلك الديوان الذي عشقنا منه في سنوات صبانا قصيدة الأطلال التي شدت بها كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم. وأذكر جيدًا بأني قد قرأت ذات يوم، بأن إبراهيم ناجي في أحد لقاءاته الصحفية قد تم سؤاله عن إحدى عتبات ديوانه النصية وتمثل ذلك السؤال عن العنوان، حيث تمحور السؤال عن المعنى الدلالي لعبارة «وراء الغمام». فكان رده اسألوا شاعر فرنسا الكبير لامارتين لمَ سمَّى ديوانه «السلم الحلزوني».
ورغم أن توجه إبراهيم ناجي في شعره بوصفه أحد رموز (جماعة أبوللو) الشعرية التي تشارك أعضاؤها في كسر قالب القصيدة الكلاسيكية من خلال البعد عن الأغراض التقليدية للشعر، والتحرّر من الصنعة والتكلّف الشعريتين، قد كان رومانسيًا على غرار الشاعر الفرنسي لامارتين رائد الحركة الرومانسية في الشعر العالمي، إلا أني لم أجد له -أي لامارتين- على امتداد رحلتي القرائية الممتدة منذ صغري إلى أن كبرت وترجمت بعضًا من أشعاره، ديوان أو قصيدة تحمل هذا الاسم. ومن هنا فاعتقد جادًا بأنها قد محاولة جريئة من ناجي للانعتاق من قيد السؤال، أو ربما هي محاولة منه قد كان الباعث لها هو رغبة شاعرنا الجميل في أن يتخلَّص من معركة أدبية محتملة أخرى قد يجرها عليه عنوان ديوانه، خاصة وإنه قد واجه قبل ذلك حرب شعواء من قبل الأديب الكبير الراحل طه حسين الذي نقده في (حديث الأربعاء) نقدًا مرًا وصل لأن يصف شعره بأنه ذو جناح ضعيف لا يقدر على التحليق، وأكثر من ذلك فمثلما فضّل الأخطل الفرزدق على جرير أثناء خصومتهما الشعرية الشهيرة، فقد فضَّل طه حسين الشاعر علي محمود طه على شاعرنا إبراهيم ناجي.
وأكثر من ذلك فقد واجه ناجي حرباً أخرى شنَّها عليه الراحل عباس محمود العقاد اتسمت بالعنف والكثير من القسوة، وذلك حين وصف العقاد شعر ناجي بالمرض والتصنُّع، بل ذهب في نقده إلى حدود التطرف عندما اتهمه بسرقة الشعر. أو أن الأمر برمته مجرد إسقاط سلبي قد وجه صوب ناجي.
وبعيدًا عن مجمل ذلك التعالق المتشح بالسواد في علاقة ناجي بنقاد شعره فلنتأمل قوله الشعري هذا ولنكن نحن الحكام:
أنا في بعدك مفقود الهدى
ضائع أهفو إلى نور كريم
اشتري الأحلام في سوق المنى
وأبيع العمر في سوق الهموم
لا تقل لي في غد موعدنا
فالغد الموعود ناء كالنجوم
أغدًا قلت؟ فعلمني اصطبارا
ليتني اختصر العمر اختصارا
إن علاقة ناجي وتأثره بشعر لامارتين في رأيي لا يمكن لناقد حاذق أن ينكرها، حيث تورد رواية بعينها أن شاعر فرنسا الشهير لامارتين التقى على ضفاف بحيرة بورجيه بفتاة تدعى «ألفير»، فكان ذلك الموضع هو الميلاد لقصة حب استمرت خمسة عشر يومًا، افترقا بعدها على أن يلتقيا بعد عام، وقد كان أن وفى لامارتين بوعده فحضر إلى المكان المتفق عليه، إلا أن ألفير لم تحضر. فقد غيَّبها الموت جراء إصابتها بداء (ذات الرئة)، فبكاها ولن أقول رثاها لامارتين بقصيدة أعدها النقاد من أروع ما كتب وهي مرثية «البحيرة» حملت شحنًا تصاعديًا لمشاعر اللوعة والأسى، ورسمت في أبجدية رومانتيكية حزنًا صادقًا.
هذه القصيدة كانت هي من أميز ما وقعت عليه عين إبراهيم ناجي فنقلها للعربية بروعته المعهودة في انتقائيته للفظ، وحضوره الجمالي البهي في التعبير، والتي منها:
من شاطئ لشواطئ جُدد
يرمي بنا ليل من الأبد
ما مر منه مضى فلم يعد
هيهات مرسى يومه لغد
سنة مضت! وختامها حانا
والدهر فرَّق شملنا أبدا
ناج البحيرة وحدك الأنا
واجلس بهذا الصخر منفردا
وقل للبحيرة تذكرين وقد
سكن المساء ونحن باللجّ
لا صوت يسمع في الدنى لأحد
إلا صدى المجداف والموج
وختامًا، فإن ما أعيه جيدًا بعد هذا العرض المقالي لثنائية الناقد -الشاعر وعلاقتهما المرتبكة في عالمنا العربي والمتشنجة المتوترة في أغلب الأحيان، بأنها هي من قد كانت من ضمن الأسباب التي حالت دون بلوغ شعرية ناجي لمنتهاها الإبداعي، في حين قد كانت هي بشكلانيتها التكاملية والداعمة من دفعت بإليوت للوصل لجائزة نوبل في الأدب. فيا أيها الناقد العربي عليك بإعمال مبضعك النقدي في النص المُطالع أمامك فقط، وليس في شخص الشاعر خاصة صغار الأدباء من الجنسين كي لا تؤدي لتولد شعور لديهم بالتقزّم الأدبي وفقدان الثقة في الذات المبدعة ومن ثم خفوت موهبتهم الإبداعية.