هدى بنت فهد المعجل
في روايتها العميقة مسرى الغرانيق في مدن العقيق، تُقدّمُ الروائية أميمة الخميس رحلةً ليست مجرد تنقّلٍ جغرافي، بل عبورٌ داخليّ إلى دهاليز الوعي، وإشكاليات العقل والحالة العربية. تبدأ الرواية في صحراء اليمامة، ويشرع بطلها مزيد الحنفي بدراسة نصوص، يتلقّى سبع وصايا عليه أن «ينساها» ويترك لرحلته أن تكون تجلّياً لها - وهو ما يكشف من اللحظة الأولى التوتّر بين التأطير والتنكّر، بين الوصيّة والتجاوز، بين «ما يُقال لي» و«ما أختاره».
في هذا الإطار، تبدو المدينة -بغداد أو القدس أو القاهرة أو الأندلس- أكثر من مجرد فضاء، فهي حاضنة لأفكارٍ، ساحة تأمّلٍ، ومكانٌ يتبدّل فيه البطل من شابٍ مشتاق إلى مكتشفٍ متمردٍ على الوصايا. وكما تشرح مطوّلة إحدى الدراسات، فإن «أشكال حضور المدينة في الرواية» تمثّل عنصرًا مكوّناً في البنية السردية، إذ ليس المكان هنا خلفية ثابتة، بل عاملٌ نشط يُشكّل الهوية والسؤال والمعرفة.
من الناحية النفسية والفلسفية، يمكن قراءة الرواية من ثلاث زوايا:
أولًا - رغبة المعرفة ومفارقة الوصايا.
مزيد يسير بين كتب، أسفار، جماعات سرّية، الطريق الطويلة للحقيقة الفكرية. لكنه مُكلّف بأن «ينسى» سبع وصايا بعد قراءتها، وبأن يترك لرحلته أن تكون تجليًا لها. هنا تتجلّى مفارقة: المعرفة تبدأ بالوصايا والنص، لكن النضوج يطلب التخلي عنها لتحرير الذات. إنّها صورة نفسية للانفصال عن كل ما يُفرض عليك كي تبدأ في أن تختار، أن تُشكّك، أن تكون.
ثانيًا – المدينة كمرايا للذات وتحولها.
عندما يصل مزيد إلى بغداد، هو يدخل بيئة ثقافية صاخبة، يُدخِل فيها سؤاله، ويتعرّض لانقسامات الفكر، ولتيارات السّرّ والعقلانية معًا.
في القدس يواجه الآخر المختلف دينياً وثقافياً، وتلمس الروائية كيف أن الفرد هو في حركة مستمرة بين الانتماء والاغتراب. المدينة هنا هي رحلة نفسية: فالمكان يُعيد تشكيل البطل، ويصيغه بطلاً ليس فقط في الخارطة، بل في الكينونة.
ثالثًا - الأسطورة والتاريخ والإشكالية العربية.
الرواية تنتمي إلى ما يسميه النقد «التخييل التاريخي»: إعادة تركيب الوقائع، نقلها عبر الزمن والمكان، لكنها ليست مجرد رواية تاريخية، بل خطاب فكري يطرح سؤال العقل العربي، سؤال التاريخ، سؤال التعدد والانغلاق.
إنّ مزيدًا يمثل «العربيّ» الذي يتحرّك بين المراكز الكبرى للثقافة، ويتساءل عن دوره، عن العلاقة بين المعرفة والقوة، الدين والسياسة، الانتماء والتنوّع.
ولعلّ أجمل ما في الرواية أنها تجعل القارئ يشارك البطل تلك الدهشة الأولى حينْ يدخل العوالم الكبرى، لكنها لا تكتفي بالدهشة، بل تذهب إلى ما بعد: ماذا بعد المعرفة؟ ما الخلاص؟ أو ما التنوّر الذي لا يُستدان من الوصايا؟ هنا يكمن العمق الفلسفي: التخلّص ليس من النصّ فحسب، بل من العائق نفسه الذي نؤمن به، والمكان الذي نعتقد أنه ينتمي إلينا.
في النهاية، تكشف «مسرى الغرانيق» عن أن الرحلة الحقيقية ليست في أن تصل إلى الأندلس أو القاهرة أو القيروان، بل أن تخرج من قيودك، وأن تسأل من أنت، وما تريد أن تصنع من نفسك. وهكذا تكون الرواية ليس فقط سردًا لرحلة خارجية، بل دعوةٌ إلى رحلة داخلية: إلى «مدينة الذات» التي تحتاج أن تُكتشف، أن تُهدّم، أن تُبنى من جديد.
بهذا المعنى، تمتلك الرواية بعدًا نفسيًا وفلسفيًا يتجاوز الحكاية إلى تأمل في الوجود، في المعرفة، وفي ما يعنيه أن تكون عربيًا يُسافر ويُفكّر ويُغيّر، لا أن يُكتفَى بأن يُسافَر عنه أو يُروى مكانه.