حامد أحمد الشريف
عادة لا أحب مطالعة الكتب التي يتم تدوينها باللهجات العامية، حتى لو كان ذلك مبررًا أو بنسبة محددة من العمل، وأصل أحيانًا إلى رفض الحوارات العامية التي يجيزها كثير من النقاد؛ إن لم تخدم السياق البنائي للعمل وبحدها الأدنى، ذلك أنني أؤمن بأن المنتجات الأدبية هي في أصلها لغة أدبية فصيحة وراقية، وكنت على قناعة بأن الحكايات الشعبية المسرودة باللهجات العامية لا تدون وإنما تنتقل بالمشافهة، ولا يمكن إدراجها ضمن الأدب حتى وإن كتبت، طالما بقيت على حالها ولم يتدخل كاتبٌ ويلبسها ثوب اللغة الرصينة، مايعني قبولها كما هي والاستفادة مما فيها من حكم وعبر ومواعظ وطرف، من دون الانشغال بتجنيسها، وإن كنت لا أنكر على من دونها إذ إن لها عشاقها ومحبوها من كل الأعمار ومن كل الثقافات، فالحكايات الشعبية هي أفيون الشعوب وذاكرة الأمم ولا يمكن إغفالها بالكلية حتى وإن لم ترقَ لذائقتنا.
كان ذلك قبل عثوري مصادفة على مغلف فخم من الورق المقوى السميك عُنون بـ «حكاوي من خلف الرواشين» للكاتب السعودي صالح حامد عطية أتى في 354 صفحة من القطع الكبير، وجذبني بداية في عنوانه عبقُ الماضي والحنين إلى حياة الأجداد. بذكره الرواشين التي اشتهرت بها حواضر الحجاز، وفي مقدمتها مدينة جدة، ولم تخلُ منها كثير من المدن العالمية، وهي تمثل حالة وجدانية عالية جدًا لكل من عاصروها أو وقفوا على أطلالها، كما جذبتني أيضًا مفردة «حكاوي» التي نعلم جيدًا قيمتها وقد تربينا عليها وقت أن كانت هي تسليتنا الوحيدة ومصدر كثير من المهارات والسلوكيات التي نقلت لنا بهذه الطريقة المسلية، وأصبحنا لا نستطيع مقاومتها، فبمجرد عثورنا على حكاية ما؛ نتسمر مكانَنَا وننصت بكل شغف، وقد ترسخ في أذهاننا ما تحتمله هذه المرويات الشعبية من إثارة وتشويق ونهايات غير متوقعة، خلاف غرائبيتها وإتيانها بالحكايات الخيالية المرعبة مصطحبة معها الجن والغول و»السعلي»، واستحضارها للتاريخ والجغرافيا أي مرورها بالأزمنة والأمكنة وإن كان ذلك غير مقيد، إذ لا يشترط فيه المصداقية، فهي مجرد حكايات شعبية تحتمل الصدق والكذب، وغاية ما يراد منها نشر فضائل معينة، أو التحذير من بعض السلوكيات أو تزجية الوقت وإشغال الصغار وتهيئتهم للنوم.
وعندما أُضيفَ إلى العنوان مفردة «خلف» أصبح الأمر أكثر تشويقًا وإثارة، فكما هو معلوم فإن هذه المفردة ارتبطت بالحوادث المستفزة التي تدار في الخفاء وتلوكها الألسن، وفي كل الأحوال كانت هذه بداية أكثر من رائعة جعلتني أخطف الكتاب وأندفع إلى قراءته حتى أكملته في أيام معدودات والابتسامة لا تفارقني، ولم تكن قراءة عابرة أو سطحية، بل قراءة عميقة وعت كل ما كتب، ووجدت ابتسامتي تتسع أكثر فأكثر بعد انتهائي منه، وأتحاور مع نفسي بخجل، وقد تهاوت بسهولة محدداتي القرائية، فقد استطاع المؤلف الامساك بتلابيبي، واجباري على إكماله وتنحية كل المعتقدات السابقة، بل ودفعني أيضًا للكتابة لأول مرة عن كتاب دوِّنَ باللهجة العامية ولا يمكن تجنيسه في أي جنس من الأدب، إذ لم يكن رواية ولم يكن قصة قصيرة، ولا يمكن إضافته للمقامات العربية المعروفة، وإنما هو مجرد حكايات شعبية بسيطة كتبت بلسان «أهل أول»، فما السر الذي حمله هذا المصنف وخلق له هذه القيمة التي دفعتني للاستمتاع كثيرًا بقراءته والكتابة عنه؟!
باعتقادي أن ما مررت به سيمر به غيري، وهذا يعني أن المصنف كتب وفي ذهن كاتبه أنه سيُقرأ من كل من تقع عينه عليه، وسيُدمن الجميع قراءته، ولم يأت ذلك مصادفة، وإنما بإرادة حقيقية من المؤلف وهو ما قادني لتدوين هذه المراجعة النقدية، وفي ذهني محاولة الوقوف على أسرار التلقي الجيد للمصنف، رغم إخلاله بكثير من القواعد التي تتطلبها الأجناس الأدبية، وفي مقدمتها اللغة العربية الفصيحة فضلًا عن اللغة الأدبية وهي الشرط الذي لا يمكن إغفاله، ولعلي أيقنت بعد هذه التجربة اللذيذة أن التلقي الجيد للنصوص له اشتراطات أهم من اللغة بكثير وهو ما جعل الشعر يذيع وينتشر بلهجاته العامية المختلفة، وهذا ما سيكون محور حديثنا قبل تطرقنا للقواعد التي أغفلت وتأثر بها التلقي سلبًا وإيجابًا.
ولعل من المهم القول هنا إن اشتراطات التلقي لا تتطابق كليًا مع اشتراطات التجنيس الأدبي؛ وإن تلاقيا في عدد منها كما سيتضح لاحقًا، فهذا المصنف اعتمد بشكل كبير على عنصري التشويق والإثارة لإيجاد هذه العلاقة الرائعة بين القارئ والكتاب، وبدا أن المؤلف أجاد بالفعل في توظيفهما لبناء هذا الارتباط القوي، ولم تأتِ بشكل عفوي، اعتمادًا على الإثارة المرتبطة بتنامي غموض الحدث في خطه السردي الكرنولوجي المتصل كما هو الحال مع الحكايات الشعبية الشفاهية، وإنما تنوع كثيرًا في ذلك كاجتهاده في بناء الشخصيات المحورية، وق درته على تركيبها وإبعادها عن السطحية، ومنحها المساحة السردية التي تتوافق مع تداخلاتها في الحكاية، كما حدث مع شخصية سعدي التي بنيت بطريقة متقنة، وشكلت عنصر جذب كبير للقارئ بالإخفاء الممنهج الذي أحاط بها ولم يُفصح عنه إلا في نهاية الحكاية، وكذلك الداية «ستي مشتهى» التي اهتم المؤلف كثيرًا ببناء شخصيتها، بما يتوافق مع أهميتها وتداخلها مع الصراع الرئيس وأضفى عليها شيئًا من الطرافة والحكمة التي ميزت ذلك العهد الجميل، في وقت لم يُغفل مواصفات الشخصيات الواقعية وبدا كأنه ينقلها كما هي من غير رتوش بمعنى أن تدخلاته لم تكن ظاهرة للعيان.
ومما يؤكد أن السردية صنعت على مكث تحت أنظار المؤلف ولم تكن جمعًا للمرويات الشعبية كما يعتقد، إن الإثارة والتشويق أخذا أشكالًا مختلفة، فقد ارتكزت مع سعدي على التراكب وغموض الشخصية المنطقي والمبرر بينما أتت مع الداية «مشتهى» بشكل مختلف تمامًا، فشخصيتها التي اتصفت بالطيبة المتناهية، والوضوح والمباشرة الوجدانية العالية والتلقائية السلوكية والظرافة؛ لم تكن مثيرة أو مشوِّقة بالقدر المطلوب، وحلت محلها كميةُ صراعات هائلة أحاطت بها وتعلقت بمهنتها كونها «قابلة»، خلاف ارتباطاتها الاجتماعية المتعددة بتجاذباتها المختلفة، وبني التشويق والإثارة هنا على تعدد هذه الصراعات وتبايناتها واختلاف امتداداتها، ومغازيها العميقة وفلسفاتها، وهي تقنية سردية عالية الجودة لا يمكن أن تأتيَ بشكل عفوي، وهذا يعيدنا إلى المقارنة بين هذه السردية وبين الحكايات الشفاهية، حيث نرى بصمة المؤلف وتحكمه في مفاصلها وقدرته على توجيه دفتها، بينما لن نجد ذلك ظاهرًا في الحكايات الشعبية التي تنشغل غالبًا بالصراعات وتبالغ في نتائجها ولا تهتم بالأبعاد النفسية والسلوكية للشخوص إلا ما أتى منها مصادفة أو ما تعلق بالصراع، كالعدوانية عند أبطال الشر، أو السذاجة والطيبة عند الأبطال المسالمين أو الدراويش، أو الرصانة وقوة الشخصية عند القيادات.
ومما يدل على هيمنة المؤلف على النص وتحكمه في مفاصله الحكائية أيضًا؛ تعدد وسائل الإثارة والتشويق، كثنائيات الشخصيات، أي الاتيان بالشخصية ونقيضها، كشخصية الداية المناقضة تمامًا لشخصية سعدي، وشخصية أم سعدي المناقضة لأم حسن، وهذه تقنية سردية معروفة تعتمد على إظهار مواصفات الشخصية الرئيسية بوضع شخصيات تناقضها تمامًا وتبرز الفرق، والثنائيات تستخدام عادة في السرد لإعلاء شأن الصفات المتناقضة، وهذا أيضًا يغيب إلى حد ما عن الحكايات الشعبية العفوية التي لا يُتحكم في كتابتها.
وللإيضاح أكثر نقول إن الإثارة والتشويق مع شخصية «سعدي» ارتكزت على تركيبة شخصيته التي جمعت بين القوة والضعف، والطاعة العمياء والمعارضة الشديدة، والوضوح الكامل والغموض المتناهي، وكذلك مع القرارات المباشرة والمبررة مقارنة بالقرارات الغامضة وغير المبررة، وكان لكل ذلك أثرٌ كبيرٌ في خلق أجواء حكائية مشوقة ترفع من نسبة التلقي، وكمثال على ذلك: الغرابة التي انطوت عليها بعض تصرفاته ولم يُفصح عنها إلا بعد موته كإخفاء أسباب تكرار سفراته إلى مدينة «ينبع»، ولفت نظر القارئ إليها كقوله ص74: «سلامتك يا أخويا. يا واد كثرت روحاتك لينبع، شغل يا أمي، والله أنت غويط زي البير» انتهى كلامه.
وهذا يشير إلى السلوكيات الشاذة التي أتت أيضًا على نحو مختلف في موضع آخر نرصده في قوله ص33: «وغادر سعدي إلى غرفته، بعد ذلك صعدت إليه أخته زين وسمعته وهو يبكي في غرفته وعادت إلى أمها ولم تخبرها بذلك» انتهى كلامه.
ونقف هنا على انكفاء ذاتي يشير إلى اضطرابات نفسية غير معلنة كشفت عن ضعفه رغم القوة والبطش المتناقَل عنه، حيث إن المؤلف لم يفصح عن السبب إلا في صفحة 101 عندما صارحته أخته زين بأنها تستغرب من تكرر بكائه المتزامن مع خطبته، وإصرارها على معرفة السبب ورده عليها بقوله: «سكت قليلًا وكأنه كان يفكر وفجأةً قال لها: كلامك صحيح يا أختي لكن الموضوع وما فيه هو أني بأفتكر أبويا الله يرحمه لمن كان يقول: يا سعدي بدي أفرح بيك وأزوجك» انتهى كلامه.
وكما يتجلى هنا فإنَّ العبارة صيغت بطريقة غير حاسمة وتحتمل الكذب بنسبة كبيرة، فالسكوت والتفكير قبل الإجابة يشير إلى محاولته الهروب من سؤالها بالكذب عليها، وهذا ما أطلعنا عليه متأخرًا بعد وفاة سعدي، وقت أن عرف السبب الحقيقي لبكائه بمحض الصدفة بعد مرض صباح ودخولها إلى العيادة، وهذا يعد تقنية سردية عالية الجودة، تُعتمد لخلق التشويق والإثارة في النص السردي استنادًا إلى ضبابية المواقف، برع فيها المؤلف حتى وإن بنيت على مرويات شعبية حقيقية متناقلة، فبصمة المؤلف ظاهرة في توظيفه للواقع ومزجه مع الخيال وبناء الصراعات الدرامية بشكل متقن، وكل ذلك لا يأتي مصادفة، خلاف أن بناءه لشخصية «سعدي» تركت فراغات متعمدة يشتغل عليها العقل محاولًا ردمها، أي أن النص تمتع بالذكاء المندوب إليه في التلقي الجيد للنصوص، وهو ما يعلي من القيمة التشويقية للحكايات ويمنحها الإثارة المطلوبة.
ومن العوامل التي وظفها المؤلف للوصول إلى الإثارة والتشويق المطلوبيْن وتعزيز جانب التلقي الجيد للسردية؛ تعدد الحكايات الشذرية المتصلة بالحكايات الرئيسة الثلاث التي تقاسمت مساحة السرد بشكل شبه متساوٍ تقريبًا، حيث أتت حكاية سعدي الأولى في 130 صفحة وأعقبتها حكاية «لعبة المزمار» التي استأثرت بالسرد من الصفحة 150 إلى صفحة 248 بما يعادل 98 صفحة، لتأتي الخاتمة مع حكاية الداية «ستي مشتهى» التي امتدت من ص 249 إلى نهاية الكتاب بواقع 155 صفحة إلا أن الرقم غير دقيق نظرًا لبعض الحكايات التي أخذت مساحة أكبر من المعتاد كحكاية الحباب، وهذه أخذتنا معها من ص315 إلى 332 بواقع 17 صفحة قبل العودة لاستكمال حكاية الداية.
هذا التعدد الشذري للحكايات تجلى بداية من الحكاية الأولى المتعلقة بزواج سعدي إذ زج المؤلف بعدد كبير من الحكايات الصغيرة، كحديثه ص 25 عن الفرق بين المشاكل والمرجلة بكل تفصيلاتها، التي تضمنت هي الأخرى عددًا من الحكايات الأصغر رغم ضيق مساحتها كحواره الحاد حول الفرق بينهما الذي يدركه الوالد ولا يعرفه الابن، وكذلك سبب حمله للعصاة بشكل دائم، وكبر عمر الإبنة صباح والخشية من أن يفوتها قطار الزواج، وأخيرًا موت الوالد وتحمل سعدي مسؤولية أسرته المكونة من الأم وأربع أخوات، ويمكن القياس على ذلك في عدد من الحكايات الصغيرة التي غدت الحكاية الأم وأوصلت مستهدفاتها الفهمية والقيمية والحكائية كـ «عشوة معدوس» ص27 و «تفاجأ سعدي بالخطوبة» ص 31 و «عريس يبكي في يوم خطوبته» ص33 و «سلطة الحُمر» ص35... الخ.
وفي حكاية «لعبة المزمار» التي روتها صباح لخالها بضمير الغائب أو الراوي العليم المشارك بعد وفاة زوجها سعدي بتقنية الفلاش باك نجد أنها امتلأت هي الأخرى عن أخرها بالقصاصات الحكائية كـ «رجل بأربعة رجال» ص153 و «عُصي سعدي» ص 154 و «ينام سعدي وهو حاضن العصاية» ص155 و «سقوط سعدي من الروشان» ص 156... الخ، وهكذا تستمر معنا الحكايات الشذرية القصيرة جدًا إذ لا يتخطى معظمها الصفحة والصفحة والنصف، حتى وصولنا إلى نهاية هذه الحكاية الرئيسة الثانية.
وفي الحكاية الثالثة «الداية» استخدمت المنهجية الفسيفسائية نفسها وإن بدت أكثر إثارة وتشويقًا بحكم قيمة الحكايات وارتباطها بكافة مكونات المجتمع صغارًا وكبارًا بخلاف أن شخصية الداية كتبت بعناية فائقة وارتبطت قيمتها بهذه الحالة الوجدانية التي رافقتها، ومن أمثلة هذه الحكايات الصغيرة: «الداية تلبي النداء في أي وقت» ص250 و «الداية تُجبر الحامل على المشي» ص252 و الداية لا تتقاضى أجرا من المعسرين» ص253... الخ، وهكذا تمضي معنا الحكايات الشذرية حتى نهاية الكتاب بنفس الآلية.
ومن المهم التنويه إلى أنني تعمدت ذكر هذه الحكايات المتوالية حسب ترتيب ظهورها في الكتاب من دون النظر لقيمتها وهيكليتها البنائية، للدلالة على المساحة السردية القصيرة التي اعتمدت في مجمل الكتاب وعُدت سمة بارزة لكل الحكايات وشكل ذلك عنصرًا مهمًا جدًا لعب دورًا بارزًا في التلقي الرائع للنصوص، إلا أن ذلك لم يمنع المؤلف من الاعتماد على قيمة هذه الحكايات وحسن توظيفها كعاملٍ مهمٍ إضافي يسعى لربط القارئ بالسردية رغم معوق اللغة والأخطاء التي كان عليها السرد وسنأتي على ذكرها لاحقًا.
إن هذا التفاوت القيمي شكل محطات تعيد قوة الارتباط بالنص ،كلما ضعفت قليلاً أو هدأت وتيرتها بما يشبه محطات تقوية شبكات الحاسوب والكهرباء، وللدلالة على ذلك نجد أن هناك حكايات مختلفة ذات أبعاد متعددة مثل حكاية «عريس هائم في الشوارع يوم خطوبته» ص63 و «رجل يبكي ويعمل له الرجَال ألف حساب» ص98 فهذه الحكايات كما أسلفنا وظفت في إظهار تراكب شخصية البطل «سعدي» خلاف سياقها السردي المرتبط بالحكاية الأم. ومن القصص القوية أيضًا «ضربني زوجي سعدي!» ص131 و»مغادرة الداية المفاجئة» ص 138 التي شكلت منعطفات مهمة في السرد، وهنا ينبغي التنويه إلى أن قيمة الحكاية قد لا تكون في أصلها وإنما في ارتباطاتها المحورية المهمة بالحكاية الرئيسة، والاعتماد عليها في إيصال مستهدفاتها الفهمية كم ورد في عناوين الحكايات السابقة، بينما نجد بعض الحكايات قوية جدًا في أصلها وتشكل مستهدفًا فهميًا مستقلًا منحها القوة والقيمة خلاف ارتباطاتها المحورية المعتادة بالحكاية الأم، كحكاية «الزوجة لا تزال بكر» ص 149 وهذه في ظني من أهم الحكايات الشذرية التي اعتمدت عليها حكاية «سعدي» إذ إنها مفصلية في إيقافنا على الصراع الكبير الذي حفلت به الحكاية، وشكل عنصر جذب كبير لكل تفاصيلها وتفرعاته المتعددة، وفي نفس الوقت حملت قيمة مستقلة وهي تظهر مقدار الخلل المجتمعي الكبير، عندما تتأثر القرارات المصيرية بالعادات والتقاليد والقيم المتوارثة وهيمنة قرار الأب على أفراد أسرته، وتسبب كل ذلك في حرمان زوجته من أبسط حقوقها الزوجية في المعاشرة الجنسية، وحرمانها من الذرية، ومع أن هذه الحكاية كغيرها تعد من المرويات الشعبية المتناقلة التي لا يعلم مدى صحتها ولا تسلم غالبًا من المبالغات التي ترتبط عادة بالنقل المتواتر، إلا أن توظيفها واستخدامها في كل هذه الأغراض التي نوهت عنها يعد نجاحًا كبيرًا للمؤلف بغض النظر عن مدى صحتها، ففقدان أصالة الفكرة ومصداقيتها لا يعني بالضرورة انعدام قيمتها السردية، وغياب امتداداتها الإبداعية إذ إن طريقة التناول والتوظيف قد تحمل شيئًا من الأصالة التي نبحث عنها، ومن أمثلة هذه الحكايات المحورية القيمة، حكاية «حيث تضع نفسك ستكون» ص262 التي تنطوي على فلسفة وفكرة عظيمة نحتاجها في حياتنا، وعلى أية حال فهذه نماذج من الحكايات القيمة التي شكلت مفاصل مهمة في الكتاب وليست جميعها إذ لا يتسع المقال لفرزها وتصنيفها وتدوينها هنا.
ومن العناصر المهمة التي اعتمدها المؤلف أيضًا في رفع مستوى تلقي النص والارتباط الوجداني به؛ إتيانه على ذكر عدد هائل من الأمثال الشعبية الطريفة والقيمة التي أوكل إليها ربط القارئ ببعض الشخصيات من كبار السن الذين عرف عنهم بالفعل تدعيم أفكارهم وأقوالهم غالبًا بمثل هذه الأمثال في تلك الحقبة الزمنية التي اتخذها المؤلف فضاءً سرديًا زمانيًا لحكاياته وإن لم يستثنِ صغار السن من هذا الأسلوب الكلامي المشوق، في إشارة جميلة إلى التقليد غير المقيد الذي يطغى على المجتمعات الصغيرة المنغلقة على نفسها ويغيب الإبداع والتفرد، كقول الشاب عبده شقيق صباح ص104: «الله لا يجعل لنا جارة ولها عينين»، بينما أتت غالبية الأمثال الشعبية على لسان الكبار كقول أم سعدي ص31: «اللي ما ينصفني وأنا حي لو مت يوفر دمعته»، وقولها أيضًا ص52: «شيل الريحانة وشمها وخذ البنت على ريحة أمها»، وقول والد صباح ص137: «بنت الأصل تخلي كوخها قصر»، وقول والد سعدي على لسان الجد ص170: «بيني وبينك إدبحني وبين الناس لا تفضحني» وكثير من الأمثال التي امتلأ بها الكتاب ولا يتسع المقال لحصرها، والجميل في هذا الأسلوب عدم الإشارة إلى أن العبارات مأخوذة من الأمثال الشعبية وإنما سردت على ألسنتهم، واعتمد على صياغة العبارة بطريقة تشير إلى أنها أمثال شعبية منقولة، وهذا أيضًا يسند إلى ذكاء النص واختزاله.
وحتى لا يأخذنا الحنين إلى الماضي والعاطفة المرتبطة به بعيدًا عن التقييم الفني الموضوعي للكتاب فعلينا القول إنه ورغم اعتماد المؤلف على السرد الحكائي باللهجة العامية لأهل جدة الأوائل في معظم أجزائه وشكل ذلك معضلة من الناحية الأدبية خلاف خلطه بين بعض المفردات الفصيحة والعامية بشكل مستفز، إلا أنه وقع أيضًا في مطب مزج الحكايات المختلطة ما بين الواقع الحقيقي والمتخيل، بالمقالات المباشرة المنقولة من بعض الصحف أو التي دونها الكاتب بطريقة مقالية بعيدة كليًا عن الحكايات، وهذه شكلت منعطفات سلبية أثرت على التلقي الجيد للكتاب فلم يكن مكانها هذه السردية التي اتخذت من الحكاية مادة محورية لها اعتمادًا على العنوان، ويعد المقال كما هو معلوم إشكالية حقيقية تضعف كل النصوص السردية الحكائية بغض النظر عن جودتها، ولا تغتفر مهما كانت مساحتها حتى لو لم تتخطَّ السطر والسطرين، بينما أتت هنا على هيئة صفحات متوالية خارجة عن السياق الحكائي، وبعضها مقالات صحفية لكتاب آخرين منقولة، وكشاهد على اختلاط السرد بالمقال نجد عنوان «الرباط» ص 32، وكذلك النصوص المقالية التي وردت في الصفحات من 88 إلى 90 وتناولت فن المجس الحجازي، والنصوص المقالية التي وردت في الصفحات من 115 إلى 123 وتطرق المؤلف خلالَــها للمقهى الذي كان يعد ناديًا أدبيًا حسب وصفه وذكر بعدها أشهر المقاهي في المدينة ومكة والطائف، كذلك النصوص المقالية التي وردت في الصفحات من 205 إلى 209 وتحدثت عن مقاهي جدة القديمة من عدة نواحٍ، ومقال «اليوم العالمي للداية» ص253 و254، أيضًا المقال المنقول عن صحيفة البلاد ص323 إلى ص325 ويتحدث عن البنط أو ميناء جدة القديم الذي سمي بهذا الاسم.
ومن الملاحظات التي رصدتها في هذا الكتاب؛ عدم العناية بالحوار من حيث ضبط المتحاورين، وفصل حديث كل منهما، وبداية الحوار ونهايته، حيث شكل كل ذلك صعوبة كبيرة في القراءة، وكان له تأثير سلبي في التلقي الجيد للنص، كقوله في ص38: «يا واد مهما طال الليل لا بد من الفجر، ومهما طال العمر لابد من القبر، خلاص طيب ولا يهمك نرجع لموضوع العروسة يا غالية والله أعمل أي شيء يرضيك عني» وكما يلاحظ هنا أن الحديث كان للأم بداية بتقريعها له مستخدمة الأمثال الشعبية وبعدها عاد هو للحديث وتراجع عن موقفه بغياب أي فصل يسهل للقارئ معرفة المتحاورين وبداية ونهاية حديث كل منهما، وقد تكرر ذلك في كل حوارات الكتاب تقريبًا بنفس الكيفية التي ذكرتها هنا.
أيضًا لم يهتم المؤلف بفصل المشاهد حيث نتنقل بينها بطريقة سريعة جدًا وغير مقننة ولا يمكن تبريرها، بينما دُرج عادة في السرد على فصل هذه المشاهد بالأبواب أو الفصول أو النقاط الفاصلة أو استخدام أسلوب كتابي معين لتحقيق هذا الغرض، وكمثال على ذلك كان هناك مشهد لسعدي مع أخته في ص101 انتهى بهذه العبارة: «نزلت زين من عند أخيها وكأنها اقتنعت بما قال لها وشعرت براحة تامة بعد ذلك.» انتهى كلامه. أعقب ذلك الانتقال مباشرة لمشهد آخر لا علاقة له بالمشهد السابق على الإطلاق في قوله: «ذهبت أم سعدي إلى أم صباح وكان لها ما أرادت وكانت أم سعدي تتمتع بشخصية إقناعية.» انتهى كلامه. وبالطبع تكرر ذلك كثيرًا في الكتاب على ذات النسق الذي أوردناه هنا مما قلل بالتأكيد من التلقي الجيد للنص لولا عناصر الجذب القوية التي ساندت النص ومنحته القدرة على تجاوز هذه الهنات المحورية والأساسية.
ومما يلاحظ أيضًا أن المكان والزمان لم يكن لهما ذلك الوهج الكبير المواكب لعنصري السرد الأخرى: الشخوص والصراعات، فكان حضورهما خافتًا جدًا حتى إن المؤلف لم يصف الروشان رغم وجوده في العنوان، ولم يتطرق للأبنية وتفصيلاتها الداخلية والخارجية مكتفيًا فقط بالإشارة إلى الحجر المنقبي الرسوبي الذي اشتهرت به المدن الساحلية في المملكة، وغاب ذكر الحارات والشوارع والأزقة والمحلات التجارية ووسائل المواصلات وخلافه، وغاب ذكر الزمن بشكل شبه كامل حيث لم يعرف زمن الحكايات إلا ما ورد عرضًا في الحديث عن الملك عبدالعزيز وحكم الدولة العثمانية والأشراف، ولم يعرف أيضًا زمن السرد خلاف عدم الاهتمام بأزمنة الحكايات إلا ما يستوجبه الصراع، وهو مرور عابر لا يشير لأهميته، وشكل كل ذلك ضعفًا إذ إن الحكايات الشعبية عادة تتكئ كثيرًا على الزماكان وتأخذ قيمتها منهما، وهما أيضًا عناصر تشويق وإثارة كبيرة كان باستطاعتهما خدمة السردية بشكل كبير.
بقي القول إن كل هذه الملاحظات البنائية والملاحظات الأسلوبية المتعلقة باللغة والأساليب الكتابية وكذلك غياب السيميائيات والشواهد الدلالية التي تثري النص وتسهم في رفع قيمته الأدبية، والوعظ المباشر والمقالية الكلية أو الجزئية؛ وسرد بعض الحكايات غير المنطقية مثل رواية صباح لحكايتها مع سعدي وقضائها سنين زواجهما التي أمتدت لعقود في سواليف المزمار من دون اقترابه منها، وظهور عدم تأثرها نفسيًا بما حدث وحفظها لقصص عادة لا تهتم بها النساء في الحالات العادية فكيف بها وقد تأذت كثيرًا من هذا الأمر ويفترض أن تضحيتها يكون لها انعكاس على حالتها النفسية، كل ذلك على أهميته لم يستطع قتل النصوص أو الوقيعة بينها وبين القارئ ودأب المتصفح على تلقي النص بطريقة جيدة، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الوصول للقارئ والاستحواذ عليه ليس بالضرورة مرتبطًا بالقواعد والأسس الكتابية ومدى الالتزام بها رغم أهميتها، إذا ما كانت الإثارة والتشويق والحالة الوجدانية التي تصاحب مثل هذه الحكايات في أوجها، لنقول بدورنا إن الإبداع الإنساني حالة استثنائية «يصعب تقييده».