د.محمد الدبيسي
فإذا كان ثمَّةَ (توافقٌ في منهجيةِ التفكيرِ بين مُدنِ الحجازِ الرئيسة)، كما يقول الأنصاري، فليس في مُقدمتي الكتابين اللتين أوردَ أجزاءً منهما؛ ما يدلُّ على ذلك (التوافق)، لأنَّ اعتذار المؤلِّفِينَ في مقدِّماتِ كُتُبِهِم عمَّا قد يعتريها من الهَنّاتِ والقُصُور؛ تقليدٌ استقرَّ وشاعَ عند كثير من العلماء والأدباء والباحثين، ونحوهم. ثم إنَّه اجتزأ هذا السَّطر للصبَّان، من مُقدمتِّه التي بلغت (سبع) صفحات، وتضمَّنتْ مسائل غير التي أورَدَها الأنصاري.
والأمرُ المحيِّرُ في حديث الأنصاري الآنفِ؛ ما ذَكَرَهُ من أنَّه جاء بنصِّه في مقدمة كتابه: (أوَّل أثرٍ ظهر)، وهو غيرُ مثبتٍ في كتابه، الذي سمَّاه فيما بعد: (أَدَبُنا الحَديثُ كيفَ نَشأَ وكيفَ تَطوَّر)، لا بنصَّهِ ولا بمضمونِهِ، مما يؤكِّد فعلًا (بأنَّ أوَّلَ أثرٍ ظهر، لم يظهر)، كما أشرنا من قبل.
وإلى كتابِ (المَعْرَض) لمحمد سرور الصبَّان، الذي كان صاحبُهُ أوَّلَ من طرقَ باب (الاستفتاءات) في أدبنا، على النَّهج الذي اتخذه كتابه هذا، في موضوعه ومضمونه، وأعدَّهُ للطبع عام 1342ه=1923م، ثمَّ طبعهُ ونشرهُ عام 1345ه=1926م، على نحو ما ذكرناه حوله، في بداية هذا المبحث.
فيما يرى الأنصاريُّ: أنَّ (حركةَ الأدبِ ممثلةً في الاستفتاءات، التي سادتْ طبقةَ ناشئةِ الأدبِ في مكة؛ هو ولوجُها نفسَ بابِ الاستفتاءاتِ الأدبيةِ في المدينة المنورة)، وأنَّه: لم يعلمْ عن (استفتاءاتِ أدباءِ مكةَ شيئًا)، إلا «بعد وصول كُتيِّب المَعْرَض إلى المدينة، في أوائل عام 1348ه=1929م»، أي أنَّ كتابَ الصبَّان لم يصل المدينة المنورة، إلا بعد (ثلاثة) أعوام من نشره..!. فهل يُعقل أنَّ كتابًا أدبيًا مهمًّا صدرَ في مدةٍ مبكرةٍ في مكة المكرمة، لم يصل المدينة المنورة، إلا بعد تلك السنوات..؟. وقد أفاضَ الأنصاريُّ كثيرًا في سبيل إثباتِ أنَّه لم يعلم شيئًا عن استفتاءاتِ كتاب (المَعْرَض)، وما فتئ يلهجُ بذلك ويؤكِّدُهُ، في مثل قوله: «والشيءُ الذي يجبُ إثباتُهُ وتقريرُهُ؛ أنَّ كلتا حركتي الاستفتاءاتِ اللتين أجراهما أدباء مكة وجدة والطائف، فأدباء المدينةِ؛ هما منفصلتانِ عن بعضٍ، ولا علاقةَ لإحداهُما بالأخرى مطلقًا، وبالتالي كانت حركةُ الاستفتاءاتِ بالمدينة سنة 1347ه=1928م، نابعةً من ذاتيَّةِ أدبائها، وحينما قاموا بها لم يصلْ إليهم شيءٌ من مُضارعَتِها في مكة وجدة والطائف، بالنظرِ للانفصالِ التَّامِ الذي كان لايزال قائمًا إذا ذاك، وأُقرِّرُ بحقٍّ وتحقيقٍ أنَّ استفتاءاتِ شبابِ المدينةِ في سنةِ 1347ه=1928م، لا علاقةَ لها مُطلقًا بما حدَثَ من استفتاءاتٍ مماثِلةٍ في سنةِ 1345ه=1926م، ولا صِلةَ مُطلقًا بكتابِ المَعْرَض».
ثم ذهب الأنصاريُّ مرةً أخرى، إلى عقد موازنة بين كتابٍ مطبوعٍ منشورٍ بين الناس، هو: (المَعْرَض)، وكتابٍ لم يظهر بالصورة التي تحدَّثَ عنها، وبالمضمون الذي أحالَ عليه غير مرَّةٍ، وهو: (أوَّلُ أثرٍ ظهر)، يقول: «علمًا بأن بين كتابي المًعْرَض، وأوَّل أثرٍ ظهر؛ مشابهةٌ في الجوهرِ والعرضِ، كما يدركُه المتأمِّلُ للكتابين».
ولأنَّ كتابَ الأنصاريِّ الذي تضمَّنَ الاستفتاءات، التي تمثِّل (أوَّلَ ثمارِ الأدبِ الحديث)، كما زعمَ صاحبُهُ، ليس بين أدينا، ولم يظهر..، وأعرَضَ الأنصاري عن الحديث عنه، حتى عام 1394ه=1974م، عندما استأنفَ الإشارةَ إليه في المنهل، أي بعد (سبعةٍ وخمسين) عامًا، من (تهيئته للنشر) كما كان يردِّد، في مثل قوله: «في أوائل عام 1346ه بدأ الأدبُ في المدينة المنورة، تتكوَّن جِبلَّتُه، وقد أحسَّ بوجودِه ِكاتبُ هذه السطور، إذ ذاك، فوجَّه سؤالًا أدبيًا، هو الأوَّلُ من نوعه، ونصُّه: ماهي الطريقةُ المُثلى التي ترونَها حضرتُكم كافلةً بتلقيحِ أدمغةِ ناشئتنا بفنيِّ التَّحريرِ والتَّحبيرِ، والتي تؤهِّلُهم في القريبِ العاجلِ ليكونوا رجالَ الغد كتابةً وشعرًا..؟، والسؤال ُكما نرى..بسيطُ التركيبِ والهدفِ، شأنُ أدبِ النَّاشئةِ وشُداةِ الأدبِ، في مَطلعِ حياتهم الأدبية».
ثم ذ كر أسماءَ الأدباءِ والكُتَّابِ الذين أجابوه عن ذلك السؤال، من أدباء المدينة المنورة، ولمَّا اجتمعتِ الإجاباتُ لديه، قال: « ثمَّ بدا لي نتيجةَ هذا التجميعِ الشَّاملِ، أن أؤلِّفَ كتابًا يحوي تراجمَ الزملاءِ مُوجزةً مركَّزةً، وبعضَ شعرهِم ونثرهِم، بالإضافةِ إلى أسئلتِهم وأجوبتِهم، مع تحليلها ومقارنةِ بعضها ببعضٍ، وسمَّيتُ أوَّلَ كتابٍ في أدبنا الحديث-وأقصدُ أدبَ المدينةِ الحديثِ الناشئِ، والناشئِ شُداتُهُ- باسم: (أوَّلَ أثرٍ ظهر)..، وقد بقي (أوَّلَ أثرٍ ظهر) هذا مطويًّا حتى اليوم بين دفَّتَي مخطوطته»، وهو نفس الحديث الذي ذكره في حفل تكريمه في اثنينية الوجيه عبدالمقصود خوجه، كما مرَّ بنا من قبل، ممَّا يعني أنَّ أفكارَ الأنصاريِّ في الكتاب، لم تتغير في مسألةِ ريادة الأدب الحديث، وأنَّ فرضيةَ عدم رضاهُ عن الكتاب، كما ذهبَ السريحي غير واردة، بدليلِ حديثه عنه واعتداده به، في مناسباتٍ متعددة، حتى العام الذي توفيَّ فيه، رحمه الله رحمةً واسعةً.
وممَّا يؤكِّدُ ذلك، ما ذكرهُ صديقُهُ، ورفيقُ دربِهِ الأستاذ علي حافظ (ت 1407ه=1987م)، بقوله: «وإنِّي أشهدُ وأُقرُّ أنَّ الزميلَ عبدالقدوس الأنصاري، كان أنشطَنَا في المجالِ الأدبيِّ، وكان يستفتي كُلَّ من يعرف أنَّه اشتغلَ بالأدب، من شباب المدينة المنورة، في مواضيعَ أدبيةٍ واجتماعيةٍ، ولقد احتفظَ -رحمه الله- بالأجوبة، وأخبرني قبلَ وفاتِهِ، أنَّه يريدُ طبعَ تلكمُ الأجوبةِ في كتابٍ يُسمِّيهِ: (أوَّلُ أثر ظهر)، ويجعلُ له مُقدمةً تصفُ ذلك العصر، الذي نبتَتْ فيه غِراسُ الأدبِ في المدينة المنورة..، وقد أراني جوابًا لي على استفتاءٍ منه، مرَّ عليه نصفُ قرنٍ، وقد كان -رحمه الله- معدِّهُ للطبعِ، ولم يكن بينه وبين طبعِهِ إلا خطوات».
ويلوحُ في حديثِ علي حافظ هذا، أنَّ ثمَّةَ من كان متردِّدًا في أمرِ الكتاب، وفي وجوده من عدمه، حيث بدأَ حديثه، بقوله: (أشهدُ وأُقرُّ..).
ثمَّ إنَّ الكتابَ -كما وقَرَتْ فكرتُهُ في ذهنِ مؤلِّفه، وكما تصوَّرَ منهجَهُ فيه، وكما ذكَرَ في ما أوردناه له آنفًا، وكما ذكرَ علي حافظ- ينحو نحو كتاب (المَعْرَض) للصبَّان، في قيامه على فكرة الاستفتاء: السؤال، الذي يُوجَّهُ للأدباءِ حول مسألةٍ معيَّنَةٍ، ثم تُجمعُ إجاباتهم عنها، وتُنشر في كتابٍ، واتَّبَعَ نهجَ كتاب (أدب الحجاز) للصبَّان أيضًا؛ في ترجمة الأدباءِ وإبرازِ نماذجَ من إنتاجهم.
ولأنَّ هذه المشابهةَ، وهذا الاحتذاء، لا يُرضيان الأنصاري، كما يبدو لنا، فقد ذكرَ ما أوردناه عنه هنا، من أنَّه لم يعلمْ عن كتاب (المَعْرَض) شيئًا، إلا بعد صدوره بـــ(ثلاثة) أعوام..!.
وكتابا الصبَّان، صدرا، وانتشرا بين الأدباء والقُّرَّاءِ، قبل اكتمال (أوَّلَ أثر ظهر)، وقبل تهيئته له للنشر بــ(ثلاثة) أعوام؛ وهي مدةٌ كافيةٌ لافتراضِ اطِّلاعِ الأنصاري عليهما، واستيعابِهِ مضامينها، واتباعِهِ نهجَهما، على وجه التحقيق.
ولكي يُعلِي الأنصاريُّ شأنَ أدبِ المدينة-الذي يعدُّ نفسه رائدَهُ، هو وعبيد مدني- وينتصرَ له، ولأنَّه أَخَذَ على الصبَّان خلو كتابه: (أدب الحجاز)، من أيِّ أثرٍ لأدباء المدينة..؛ ألزَمَ نفسَهُ القيام بذلك الدور، وبنى كتابَهُ الذي لم يظهر: (أوَّلَ أثرٍ ظهر)؛ على غرارِ كتابي الصبَّان، والتَزَمَ النَّهجَ نفسه، وأرادَ الغايةَ ذاتها.
ثمَ إنَّ مسألةَ خلو (أدب الحجاز، والمَعْرَض) للصبَّان؛ من أيِّ أثرٍ لأدباء المدينة، أثارتْ أيضًا تساؤلًا عند محمد علي مغربي، الذي قال: «ولسائلٍ أن يسأل: لماذا لم يَظهرْ أثرُ السيد عبيد مدني، أو غيره من أدباء المدينة المنورة، ضمن الآثارِ التي ظهرتْ في كتاب أدب الحجاز، وكتاب المَعْرَض، الذي نُشرَ في عام 1344ه؟، ولقد أجابَ الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري، على هذا السؤال، فقال: إنَّ ذلك العهد كان عهدًا انعزاليًا، فقد كانت المدينة المنورة تعيش داخل أسوارها، ولم يكن هناك اتصالٌ بين الأدباء، في كُلٍّ من مكة وجدة والطائف، وأنَّ أوَّلَ اتصالٍ كان بين أدباء المدينة المنورة ومكة، إنما تمَّ في عام 1348ه»، وقد توقَّفَ مغربي عند إجابة الأنصاري، في مسألةِ عدم الاتِّصال بين أدباءِ المدينتين المقدستين، التي أراد الأنصاري منها أمرًا..، غير الذي أرادَهُ مغربي.
فالأنصاريُّ؛ أرادها دليلًا على عدمِ علمِهِ بصدور كتاب (المعْرَض) للصبَّان، ومغربي ساقها إجابةً عن تساؤلِهِ عن خلُوِّ كتابي الصبَّان، من أيِّ أثرٍ لأدباءِ المدينة المنورة.
وبدا أنَّ مغربي لم يكن مقتنعًا بمسألة عدم الاتصالِ هذه، برمَّتِها، يقول: «ولكني في الواقع لا أستطيعُ تعليل تأخُّر الاتصال بين أدباء المدينة المنورة، وأدباء مكة المكرمة وجدة، في العهد السعودي بعد ظهور السيارات، واستعمالها للسفر بين المدينتين».
وعودًا على استفتاء الأنصاري؛ كما في السياق الذي ظهر به: (ماهي الطريقةُ المُثلى..) إلخ، فيبدو أنَّ ممَّا دفعَ الأنصاريُّ إلى القيامِ به؛ هو الشعورُ بالمسؤولية، نحو إعدادِ أجيالٍ من الأدباءِ في الشعر والنثر، واقتراح (طريقةٍ مُثلى) تحقِّقُ ما أرادَهُ مَنْ رأى نفسَهُ مسؤولًا عن تنشيط الحركة الأدبية والثقافية، أو التأسِيس لها بحسبِ مُرادِه، وبثِّ الروحِ فيها، وإشاعة الوعي بأهميتها، من طريقٍ رأى صوابَهُ وجدوى سلوكه، وهو إعدادِ الشعراءِ والكُتَّاب، و(تلقيحِ أدمغتهم) بالشعر والنثر.
ولو أحسَنَّا فهم مُراد الأنصاري، فإنَّ ما تحقَّقَ لديه من دواعي السؤال: الاستفتاء، هو حماسه الأكيد للثقافة، التي اختصرها بجِنسينِ، هما: (التَّحْريرُ والتَّحْبِير)، يندرجان تحت نوعٍ من أنواعِ تلك الثقافة، وهو: الأدب. وقد شرحَ مرادَهُ منهما، بأنَّ: التَّحْريرَ، هو: الكتَابةُ النَّثرِية، وأنَّ التَّحْبِيرَ، هو: الشِّعر.
وفي هذا الاستفتاء، يتمثَّلُ الأدبُ الحديثُ كما رآهُ الأنصاري، وكما تحقَّقَ لديه جوهرهُ ومظهرهُ، ومن ثمَّ فلا بُدَّ من أن يُقرأَ في سياق الوعي المرحلي، وإطاره الزمني، حينئذ، عام: 1347ه=1928م، في وقتٍ لم يبدأ فيه الأنصاريُّ بعد مشروعه المهم: مجلة المنهل، ولم تستقر أحوالُ البلاد إداريًا واقتصاديًا، ولم تتضح المعالم الرئيسة لدورها الثقافي. وإن كانت قضية الأدب، تمثِّل لطائفةٍ من ذلك الجيل؛ مقوِّمًا مهمًّا من مقومات الثقافةِ والمعرفة، وشواهدُ ذلك كثيرة، منها: (أدبُ الحجاز، والمّعْرَض)، ثم حديثُ الأنصاري السابق، وما تضمَّنَه من أفكارٍ، تَحسُنُ قراءاتها في سياقها الثقافي، حيث كان من أجلِّ قيمِ الأدبِ وأهدافِهِ، عند ذلك الجيل المؤسِّس؛ دوره في الإصلاح الثقافي والاجتماعي، دون أن يتوقف عند حدود هذه الغَرَضِية فحسب، على أهميتها مرحليًّا على الأقل. بل كان الأدبُ لديهم أيضًا؛ وسيلةً إبداعيةً تحقَّقَت فيها قيم التعبير الفني عن الذات والحياة، وأفكار الإنسان وهواجسه، وآماله، وتجاربه الحياتية الحيَّة، وتصوُّراتِهِ، بكلِّ ما تحمله قيم التعبير وأساليبه تلك، من أبعادٍ ثقافيةٍ إنسانية وجمالية.
ومن يُطالع (استفتاءاتِ المنهل) بعمومها؛ يتضحُ له ذلك السعي الحثيث من جمهرة أدباء ذلك الجيل، نحو الإصلاح الذي ينشدونه، وبالصورةِ التي ارتسمتْ له، واستقرتْ في أذهانهم، وبذلهم الوُسعَ للرُّقيِّ بحركة الأدب والثقافة وتطويرها، وفق المرجعية المعرفيةِ لكلٍّ منهم، وإلى الغاياتِ التي كانوا يتطلَّعون إليها.
وإنَّ فكرةَ الأسئلة ذاتها، أو ما سمَّوهُ بـ(الاستفتاء) -الذي ابتَدعَهُ وابتَدَأهُ الصبَّان في (المَعْرَض)، في موضوعٍ محدَّدٍ، ومضى به الأنصاري في اتجاهاتٍ وموضوعاتٍ متنوعةٍ أخرى، في المنهل فيما بعد- تُعدُّ قيمةً في ذاتها، تنبَّهَ لها ذلك الجيل؛ فكان السؤالُ لديهم، مظنَّة ائتلافٍ واختلافٍ؛ ائتلافُ جمهرة الأدباء والمثقفين على ضرورته، وأهمية مقاربته، واستجابتهم له، واختلافُ مرجعياتهم وتنوعها، في فَهْمِه واستشراف آفاقه، والإفضاء بما يحمله كلٌّ منهم تجاهه.
وقد وسَّعَ الأنصاريُّ أُفقَ الاستفتاءاتِ في المنهل التي سنعرضُ أمثلةً منها، وابتدأها بسؤالٍ وجَّههُ إلى مدير المعارف العام السيد محمد طاهر الدباغ (ت1378ه=1965م)، وجعل عنوانه: «استفتاءٌ خطيرٌ تقومُ به مجلةُ المنهل»، ثم والى تحرير الأسئلة التي وجَّهَهَا لمدير المعارف العام آنذاك، وهي:
- تنويرًا للرأي العام أرجو أن تتفضَّلوا ببيانِ الغايةِ المنشودةِ من تأسيسِ مدرسة تحضير البِعْثَات؟، وهل تُعتبرُ مدرسةً عاليةً يفدُ إليها الطلَّابُ من نواحي البلاد، لتؤهلهم للتخصُّص؟.
- هل في نيَّةِ سعادةِ المدير العام - وهو المعروفُ بغيرتِهِ واقتدارِهِ وإخلاصِهِ ونشاطِهِ – أن يُدخلَ التعليمَ الصناعيَّ، في نظامِ التعليمِ العام؟.
- ماهي الوسائلُ الأوَّليةُ التي اتَّخذتْها أو ستتخذها مديريةُ المعارفِ العامةِ المُوقرةِ لمكافحَةِ الأُميَّة؟
- هل ستؤلَّفُ بعْثَاتٌ أثريةٌ من أساتذةِ المدارسِ الحجازية، ونبُهاءِ الأدباءِ، تجوبُ البلادَ، وتدوِّنُ ملاحظاتها، واكتشافاتها؟.
والملاحَظُ في هذه الأسئلة التي استهلَّ الأنصاريُّ بها باب الاستفتاءات في المنهل، أنَّها ابتدأتْ بقضيةٍ تخصُّ (التعليمَ) وليس الأدب، وأنَّها تمحورتْ حول موضوعات: (اختصاصُ مدرسةِ تحضيرِ البعثاتِ وأهدافها، والتعليمُ الصناعي، ومكافحةُ الأمية، والعنايةُ بالآثار)، وهي موضوعاتٌ جوهريةٌ، أدرك الأنصاري ضرورتها، وأهمية العناية بها، في مدةٍ مبكرةٍ من نشأةِ الدولة، وتأسيس دواوينها، وقيام مؤسسة التعليم الأُولى فيها، على يد أحد المؤمنين بدورِه في المعرفةِ والاستنارة، وأكبر الدَّاعينَ إليه والمناضلينَ لأجله، وهو السيد الدباغ.
وكان وعي الأنصاريِّ بأهمية التعليم، ينطلقُ من هذا المبدأ، ومن ثمَّ ابتدأ استفتاءات المنهل، بسؤالِ المسؤولِ الأوَّلِ عن التعليم، وركَّزَ على القضايا التي كانت محلَّ اهتمام خاصَّةِ المتعلمين والمثقفين، وعامَّتهِم، في تلك المدة، وهي جميعها تمسُّ بنيةَ البلاد الفكرية والثقافية، التي كانت في طور التشكُّلِ والتَّكوُّن، ومن بين تلك القضايا التي كانت من الشواغل المبكرة لديه؛ (البحث الآثاري) الذي كان من المجالاتِ المعرفيةِ التي عُني بها الأنصاري، وكان رائدَ هذا الحقلِ العلمي المهم، في بلادنا؛ حين صنَّف أوَّلَ كتابٍ عن الآثار في المملكة، بعنوان: (آثارُ المَدينةِ المنوَّرةِ)، مطبعة الترقي، دمشق، ط1، 1353ه=1935م، ثم صَدَرَ الكتابُ بطبعاتٍ أخرى بعد ذلك، وثنَّى بكتابه: (بينَ التَّاريخِ والآثار)، الذي صَدَرَ في طبعته الأُولى من بيروت، عام 1388ه=1969م، ثم صَدَرَ بعد ذلك في أكثرِ من طبعةٍ، وتُرجِمَ إلى اللغة الفرنسية، وإلى اللغة الأندونيسية. وكان الأنصاريُّ في عصرِهِ مرجعًا موثوقًا فيما يتعلقُ بآثارِ المدينةِ المنورةِ، فعندما زارها الأديبُ المصريُّ الدكتور محمد حسين هيكل (ت 1376ه=1956م)، وصحَّ عزمُهُ على تسجيلِ وقائع رحلته الحجازية، بواسطة كتابه: (في مَنزلِ الوحي)، كان الأنصاريُّ دليلَهُ البَصير الخَبير، في الوقوفِ على الآثارِ النبويَّةِ والتاريخيَّةِ في المدينة المنورة، وتحديد مواقعها. وقد سجَّلَ هيكل ذلك في مقدمةِ كتابِهِ وأثناءَ فصولِهِ، وحمدَ للأنصاريِّ ولغيرِهِ مساعدتَهم له، وأثنى على سِعةِ عِلمِ الأنصاريِّ ومعرفته الدَّقيقةِ بالآثارِ النَّبويَّة الشَّريفَةِ، والتاريخيَّةِ المدنيَّةِ، ومقدار ما أفادَهُ منه من معلوماتٍ، وكانت تلك المناسبةُ بدايةَ علاقةٍ وثيقةٍ بين الأديبين.
وأمَّا الاستفتاء الثاني، فقد خصَّ الأنصاريُّ به؛ المسؤولَ الحكوميَّ البارز، آنذاك، محمد سرور الصبَّان، مدير إدارة المالية، حول مزايا الشركات الوطنية، وقدرتها على استثمار رؤوس الأموال في خدمة التنمية الوطنية، وإسهامها في نهضة البلاد. وكان على يقينٍ بضرورة عناية المنهل: المجلة الأدبية؛ بمثل هذه القضايا، «وأنَّ ذلك من أهمِّ مظاهر رسالتها الثقافية والأدبية، ثم توالت استفتاءاتُ المنهلِ بعد ذلك في الأعداد اللاحقةِ، ومن عناوينها:
- (هل يُخفقُ الأديبُ في الحياةِ أم لا؟).
- (ما هي الكُتُبُ والصحُفُ التي أنصَحُ للنَّاشِئةِ بمطالعتِها؟).
- (ما هو أثرُ الأدبِ الحديثِ في هذه البلاد؟).
- (هل يَصلحُ أدبُنا للتصديرِ أم لا؟، وإذا كان لا يَصلُحُ؛ فكيف نجعله يَصلُح؟).
- (أدبُنا.. وهل له هدفٌ؟) .
- (ماهي الوسائلُ لرفعَ مستوى الأدبِ والأدباءِ عندنا؟).
ومن يتأمَّل إجاباتَ الأدباء على هذه الاستفتاءات، تتبيَّنُ له أمورٌ عديدةٌ، من أظهرها طرائق تفكير ذلك الجيل المؤسِّسِ من أدبائنا، وكيف بدا لهم الأدبُ، ذلك الجوهرُ الذي تحقَّقَ في الكثيرِ منهم، كما تحقّقَ كثيرٌ منهم بواسطته. كما يتبيَّنُ الفوارق بينهم في درجة الوعي، وفي الثقافة، وفي مرجعياتهم المعرفية، ومتَّجَهاتهم الفكرية، والآفاق التي كانوا ينشدونها لمستقبل الأدب والثقافة...
يتبع