د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
على الرغم من أني أعلم علم اليقين أني لست أجدر القراء بعرض هذه المقدمات لأن صاحبها متحها من معين كتب أجنبية لا اطلاع لي عليها رأيت أن أقول قول قارئ عابر مجتهد لعل له من الصواب ما يشفع لخطئه.
يبدأ د. فهد عاشور مقدمات كتابه (الفصحى لغة مصطنعة) بعد أن تحدث عن سوريا واليمن بسؤال، قال «فما يفصل أرض اليمن جغرافياً عن سوريا هو وسط وشمال جزيرة العرب الأرض التي يفترض أنها موطن اللغة الفصحى التاريخي، فلماذا لا نجد في هذه الأرض قبيلة معزولة في قلب الصحراء، أو قرية معزولة في أعالي الجبال ما زالت تتكلم هذه اللغة كلغة أم، كما هو الحال بالنسبة للآرامية في سوريا، أو للمهرية والجبالية في اليمن، أو كما هو الحال بالنسبة للغة الخولانية، التي حافظت على وجودها في أعالي جبال الشحر في جنوب غرب السعودية حتى يومنا هذا»(ص 1). والجواب أن اللغة الفصحى ليست لغة بقعة خاصة، بل هي لغة مشتركة استعملها العرب مترفعين عن خصوصيات لغاتهم المحلية، وإن كانت كلها عربية بالمعنى العام للعربية، وشرفت الفصحى بأن كانت لغة التنزيل وكانت من قبل لغة أشعار العرب وأمثالهم وخطبهم، واستمرت لغة للشعر والأدب ومجالس الخلفاء والأمراء وحلقات العلم ولغة التأليف والتعليم، ولكنها نالها مع الزمن انحسار في مجال استعمالها اليومي فغلبت على لغة الناس لغاتهم المحلية. والفصحى اليوم هي لغة العالم العربي، لغة تعليمه وتعلمه وإعلامه وتأليفه. وقال «فقد اختفى الناطقون المفترضون بهذه اللغة من المدن (الأمصار) منذ القرن الـ 2هـ/8م، كما يذكر الجاحظ (ت 255هـ / 1868)، ومن البوادي مع نهاية القرن الـ 4هـ /10م، كما يذكر ابن جني (ت 392هـ/1001م). أخذ هذا التحديد الزمني كمسلمة من قبل اللغويين والأدباء العرب في العصر الحديث»(ص 3). وما يشير إليه المؤلف ليس زمن اختفاء الناطقين، بل هو زمن الاستشهاد الذي أخذ النحويون واللغويون أنفسهم به حيطة واحترازًا، وليس هذا الزمن ملتزمًا عندهم جميعًا. وأما المحدثون فتوسعوا في درسهم متجاوزين زمن الاستشهاد القديم وخاصة في الجانب المعجمي.
ذكر المؤلف أن النحويين واللغويين عللوا اختفاء الفصحى بالترويج لمزاعم انتشار اللحن، واقتبس قول الزبيدي «ولم تزل العرب تنطق على سجيَّتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها؛ حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجًا، وأقبلوا إليه أرسالًا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرِّقة، واللغات المختلفة، ففشا الفساد في اللغة والعربية، واستبان منه في الإعراب الذي هو حَلْيها، والموضِّح لمعانيها»(1). والمؤلف لم يتفطن إلى قول الزبيدي «واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللغات المختلفة» فمحاولة غير العرب نطق العربية أثّر في العرب أنفسهم كما هو الحال اليوم من تأثير لغة العمالة في بلادنا في لغاتنا المحكية ومثل تأثير اللغات الأجنبية فيها أيضًا، وحاول أن يبين قلة أهمية الاحتكاك اللغوي بضرب المثل باللغة الألمانية المحاطة بلغات مختلفة لم تغير من أمرها شيئًا، وهذا المثل مختلف فلم يخالط جيران ألمانيا أهلها مخالطة دعت على تكلم الألمانية تكلمًا أثر فيها وغير من أمرها، وأما مجرد الاحتكاك اللغوي الذي أشار إليه فالعربية منذ القديم لها احتكاك قوي بلغات من جاور بلادها كالفرس والرومان والقبط والأحباش ولم تغير في العربية تغييرًا جوهريًّا، وإن يكن ما أشار إليه النحويون واللغويون من أبرز الأسباب فلا ننسى تفكك الدولة الإسلامية وانعزال بيئاتها المختلفة بعضها عن بعض فقد كان له أثره.
قال المؤلف «إذا كانت مزاعم انتشار اللحن قد نجحت -ظاهريا- في تبرير عدم وجود الإعراب في اللغة التي تكلمها العرب في القرون الهجرية الأولى، فإنها تعجز تماما عن تفسير سبب عدم نجاح الفصحى في البقاء كلغة منطوقة (-لغة يتكلمها الناس في حياتهم اليومية spoken language متحررة من الإعراب. وتعجر، بالقدر نفسه، عن تفسير سبب خلو اللهجات العامية العربية من بقية الخصائص النحوية والصرفية والأسلوبية المميزة للغة الفصحى، سواء في ذلك اللهجات العامية التي تكلمها العرب في مدن دولة الخلافة ... أو تلك التي يتكلمها العرب في العصر الراهن»(ص 6). والقول إنها بقيت منطوقة في مجالات خاصة أما لغة الناس فلا شك أنها تخلت عن الإعراب لثقله على ألسنتها ولجفاء طبعهم عنه، وأما الخصائص النحوية والصرفية والأسلوبية فاللغات المحكية مشتملة عليها فهي خصائص للعربية عامة ما كان مشركًا أو خاصًّا، ففي المحكية الفعل والفاعل والمفعول به والحال والتمييز والمفعول المطلق والتوابع وحروف الجر والمضاف والمضاف إليه ومن الصرفية جمع التكسير والتصحيح والتثنية والتذكير والتأنيث والتجرد والزيادة والتصغير والنسب والإدغام والإمالة وإسناد الفعل إلى الضمائر وبناء الفعل للمفعول، ومن الأسلوبية فيها الاستفهام والنداء والتعجب والنفي والتوكيد. والمؤلف يعلم أن اللغات فيها مستويات استعمالية متباينة.
قال المؤلف «تبرهن الدراسة الجادة للهجات العامية المعاصرة على امتلاك هذه اللهجات خصائص لغوية قديمة جداً لا توجد في اللغة الفصحى، بل توجد في لغات سامية أقدم منها بكثير. هذه النتيجة التي يتم تأكيدها من مصادر لغوية مختلفة (النقوش البرديات الدراسات الشامية المقارنة، تثبت أن اللهجات العامية العربية - بما في ذلك الخليجية منها- تمتلك جذورا موغلة في القدم، وأنها، بالتأكيد، ليست مشتقة من اللغة الفصحى أو متطورة عنها. استناداً إلى ما تقدم، تبدو مزاعم نقاء اللغة الفصحى في الجاهلية، ثم فسادها بعد ظهور الإسلام بسبب الاحتكاك اللغوي، وتحولها إلى لهجات عامية غير معربة مجرد مزاعم أسطورية لا صلة لها بالواقع اللغوي داخل جزيرة العرب أو خارجها»(ص6). ينسى المؤلف أن العربية أوسع من العربية الفصحى؛ إذ الفصحى انتخاب من اللغات العربية المختلفة، فصلات اللهجات باللغة السامية كصلات الفصحى الكثيرة بتلك اللغة، حتى ذهب بعض الدارسين إلى أن العربية هي اللغة السامية وما سواها لهجات لها أي العبرية وغيرها، وأهم سمات الفصحى الإعراب وهو سمة شاركتها فيه لغات العرب القديمة؛ ولكنها مع الزمن تخلت عنه، ونكرر القول بأن الفصحى مستوى من مستويات العربية العامة، وأن اللغة أعم من قواعد اللغة الفصحى، وإذن لا يصح الاعتماد على صلات لغات العرب بالسامية دليلًا على نفي العربية الفصحى، والقرآن شاهد والحديث والشعر أيضاً.
**__**__**__**__**
(1) طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، ص: 11.