جانبي فروقة
إن تدريب النماذج الضخمة للذكاء الاصطناعي يتطلب كميات هائلة من الطاقة الكهربائية بسبب الحاجة إلى معالجات قوية وأنظمة تبريد متقدمة ونقل كمّي ضخم للبيانات.
على سبيل المثال تشير تقديرات إلى أن تنفيذ استعلام واحد باستخدام الذكاء الاصطناعي يستهلك نحو 2.9 واط/ساعة أي ما يعادل عشرة أضعاف استهلاك بحث واحد على «غوغل».
وتقدر وكالة الطاقة الدولية IEA أن استهلاك مراكز البيانات عالميا بما فيها مراكز AI الذكاء الاصطناعي ومزارع العملات الرقمية وغيرها قد يصل استهلاكها إلى حوالي 945 تيرا واط ساعي (TWh) بحلول 2030 م، وهذا الرقم يعادل أقل من 3% من استهلاك الكهرباء العالمي المتوقع في ذلك الوقت لكنه يبقى رقما ضخما في حد ذاته.
ويقدر أن الذكاء الاصطناعي AI سيشكل بين 25 إلى 50% من استهلاك مراكز البيانات بحلول 2030م أي نتحدث عن 400 إلى 500 تيرا واط ساعي سنويا. وصل استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية للكهرباء في عام 2024م إلى 4 آلاف تيرا واط ساعي وحسب تقرير لمركز لورنس بيركلي فإن مراكز البيانات وصل استهلاكها من الكهرباء إلى 176 تيرا واط ساعي أي ما يقارب من 4.4% من إجمالي الاستهلاك وفي أوربا وصل استهلاك مراكز البيانات إلى 96 تيرا واط ساعي أي نحو 3% من الاستهلاك الإجمالي واستهلكت مراكز البيانات في الصين حوالي 140 تيرا واط ساعي وهو ما يشكل 1.4% من مجموع الاستهلاك الكلي.
يملك الشرق الأوسط فرصة ذهبية بأن يكون مزود طاقة ذكي لخدمات الذكاء الاصطناعي عالميا بشرط التخطيط المسبق للبنى التحتية الرقمية والاستفادة من الطاقة المتجددة المتوفرة بكثرة من طاقة شمسية ورياح، ونرى اليوم السعودية تتصدر السباق باستهدافها الوصول إلى إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة إلى نحو 50% من الطاقة الكلية بحلول 2030م وتوسيع القدرة إلى نحو 130 غيغاواط GW منها ما يقارب 59 غيغا واط من الشمس و40 غيغا من الرياح. وكذلك نجد الإمارات تطلق مشروع مراكز بيانات بقدرة 1 غيغا واط GW تم الإعلان عنه من قبل أبو ظبي تحت قيادة G42 ومايكروسوفت Microsoft وكذلك مشروع مورو هب (Moro Hub) والذي يعد مثالا لمركز بيانات يعمل بالطاقة الشمسية ويعتبر من أضخم المشاريع الخضراء في المنطقة.
إن الذكاء الاصطناعي لا يستهلك الطاقة فقط لكنه يوفرها أيضا فهو يعد أحد أهم الأدوات لتوفيرها عبر جميع القطاعات من الطب والرعاية الصحية والنقل والعقارات إلى المدن الذكية فرغم أن تدريب نموذج ذكاء اصطناعي متطور يحتاج إلى مئات الميغاواطات/ الساعة من الطاقة في البداية فإن الفوائد التشغيلية تفوق بكثير الاستهلاك عند تطبيقة على نطاق واسع فمثلا إن كان لديك مبنى تجاري يستهلك 10 ميغاواط/ الساعة شهريا فإن نظام إدارة ذكي يعتمد على الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يقلل هذا الاستهلاك بنسبة 20% أي ما يعادول 2 ميغاواط/ الساعة شهريا أو 24 ميغاواط/ الساعة سنويا. وقد بدأنا نرى التطبيق العملي لذلك في مجال الطب والرعاية الصحية حيث إن المستشفيات ومراكز الرعاية الطبية تعد من أكثر المراكز استهلاكا للطاقة نتيجة تشغيل الأجهزة الطلبية والإضاءة وأنظمة التهوية على مدار الساعة إلا أن الذكاء الاصطناعي بدأ بتغيير هذه المعادلة فمن خلال الجدولة التنبؤية لمعرفة أوقات الخمول في غرف العمليات وأقسام التصوير وإدارة أنظمة التكييف والإضاءة بناء على إشغال الغرف وتدفق المرضى تحقق المستشفيات وفورات ملموسة في الطاقة والتكييف؛ حيث أظهرت دراسة حديثة أن هذه التطبيقات الذكية تقلل استهلاك الطاقة بنسبة تتراوح بين 21 إلى 44% مع تحسين جودة الخدمات.
كما تسهم الأنظمة الذكية في تحسين دقة التشخيص وتقلل عدد الفحوصات المتكررة ما يعني تشغيل أقل للأجهزة الطبية، وبالتالي خفض استهلاك الطاقة وهكذا يتحول المستشفى الذكي إلى بيئة أكثر كفاءة وصديقة للطاقة والإنسان.
وأيضا فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي بدأت تحدث ثورة في قطاع النقل والذي يعد من أكثر مستهلكي الطاقة في العالم، وبدأ مفهوم النقل الذكي مع المركبات الذكية الأكثر استدامة يساعد في تقليل تكلفة الطاقة، وقد يبدو التعليم بعيدًا عن نقاش الطاقة لكنه في الواقع قطاع كثيف الاستهلاك عبر الجامعات والمختبرات والمنشآت التعليمية فالمنصات التعليمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ستقلل الهدر الزمني والمكاني، وكذلك إدارة أذكى للموارد داخل الحرم الجامعي ستخفض من استهلاك الطاقة؛ فكل ساعة طاقة يتم توفيرها عبر تنظيم أفضل للجداول أو استخدام المساحات يعني استهلاكًا أقل للتكييف والإضاءة، كما أن التحول إلى التعليم الرقمي سيقلل الاعتماد على الطباعة والورق والتنقل مما يخفض البصمة الكربونية للقطاع بأكمله.
وتُظهر تقارير حديثة أن تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الأبنية الذكية بنسبة تصل إلى 40%. لذلك تعد الـ»المباني الذكية/ Smart Buildings» أحد أكثر مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي وضوحًا في كفاءة الطاقة حيث تعتمد أنظمة إدارة المباني الذكية (BMS) على تحليل البيانات في الوقت الحقيقي حول الإشغال والطقس وأداء المعدات لتعديل التهوية والتكييف والإضاءة تلقائيًا وتشير الدراسات إلى أن هذه الأنظمة يمكن أن تقلل استهلاك الطاقة بنسبة 8% إلى 19% بمجرد تطبيق خوارزميات التحكم الذكية، بينما وصلت وفورات بعض الشركات مثل «شنايدر إلكتريك» إلى40% في مبانٍ تجارية ضخمة بفضل أنظمتها القائمة على الذكاء الاصطناعي.
وبمجرد تدريب النماذج على بيانات كافية، يمكن إعادة استخدامها في آلاف المباني، ما يجعل التكلفة الأولية للطاقة المستثمرة في تطويرها مجدية على المدى الطويل.
وعندما تتكامل القطاعات من صحة وتعليم ونقل وعقارات وغيرها نحصل على نموذج المدينة الذكية «Smart City» حيث إن أنظمة الذكاء الاصطناعي مع إنترنت الأشياء IOT ستدير شبكات الكهرباء والمياه والنفايات والإضاءة العامة بطريقة تكاملية تقلل الهدر وتعزز الكفاءة وتحول المدن إلى كيانات أكثر استدامة ومرونة.
يقدم الذكاء الاصطناعي ازدواجية واضحة فهو من جهة مستهلك كبير للطاقة في مرحلة التطوير ولكنه موفر للطاقة على نطاق أوسع بكثير في مرحلة التطبيق، وإن تزايد الطلب على الطاقة في مراكز البيانات والحوسبة والذكاء الاصطناعي، والذي يمكن أن يتضاعف ثلاث مرات تقريبًا في العقد القادم، يجعل الحاجة إلى «الذكاء الاصطناعي الأخضر» (Green AI) – وهو الذكاء الاصطناعي الذي يتم تطويره وتشغيله وفقًا لممارسات مستدامة وطاقة متجددة أمرًا ملحا وأساسيًا لتطور البشرية.
** **
- كاتب أمريكي