د. محمد بن إبراهيم الملحم
أختتم هنا هذه السلسلة حول نتائج دراسة تاليس 2024 TALIS الدولية الصادرة 2025 والتي تجريها كل 5-6سنوات منظمة OECD والتي هي نتاج أجوبة معلمين ومديري مدارس المرحلة المتوسطة حول ممارساتهم التعليمية وآرائهم في ذلك وفي البيئة التعليمية، وأشير إلى جانب مهم جداً وهو أن مثل هذه الدراسة يجب التعامل معها بحذر، ذلك أنه لا يمكن الاعتماد عليها كلياً، فقد جاء في هذه السلسلة مظهران مقلقان أولهما إجابات معلمينا أنهم يمارسون في التدريس مهام تتطلب تفكيرًا نقديًا معرفيًا بنسبة كبيرة مقارنة بما ذكروه في دورة 2018 (وكانت الزيادة من أعلى الزيادات عالميًا؛ +10 نقاط مئوية أو أكثر). وهو ما يناقض نتائج بيزا المنخفضة تنازلياً، عدا أن الغالبية العظمى منهم (90 %) قرروا أنهم استفادوا من دورات التطوير المهني مما يتوقع معه ارتفاع واضح في نتائج بيزا PISA الأخيرة 2022، وثانياً فإن 84 % من المعلمين والمعلمات ذكروا أن آراءهم مُقدَّرة عند صانعي السياسة التعليمية وهي نسبة تعادل أربعة أضعاف متوسط بقية الدول والذي هو 16 %، بل 52 % منهم قالوا في عام 2018 إنهم يستطيعون أن يؤثِّروا على السياسات التعليمية! وهذه التصريحات تخالف ما نعايشه من حوارات المعلمين وتعليقاتهم حول التعليم واهتمام المؤسسة التعليمية بهم!
ثالثاً استعرضت حلقات المقالة أن هناك سبعة أسئلة حول كل من: وضوح التدريس، والتحفيز المعرفي، والتغذية الراجعة، ودعم ترسيخ التعلم، وتكييف التدريس مع احتياجات الطلاب المختلفة، ودعم التعلّم الاجتماعي-العاطفي للطلاب، وإدارة الصف، وقد أفاد 78 % من المعلمين بالسعودية أنهم يحققون أهداف دروسهم في كل هذه المجالات «بدرجة كبيرة» أو «بدرجة كبيرة جدًا» وهي نسبة أعلى بكثير من متوسط دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) والذي يبلغ 44 % فقط، ولو كانت نسبتنا الـ78 % حقيقية لهذه المجالات التعليمية المهمة فإن هذا يعني بدون شك تفوق تعليمنا عالمياً وهو ما نعلم أننا لم نحققه بعد (وإن شاء الله يتحقق قريباً)، لذا وأمام هذا الوضع لبعض نتائج الدراسة فإنه ينبغي التنبه إلى أنها قد يحتمل ألا تعكس واقع التعليم فعلاً، وأعتقد أن مرد ذلك يعود لعدة أسباب: أولاً، لاعتمادها على أداة واحدة هي الاستبانة والتي تتهم بحثياً بضعفها لكونها تعتمد كثيراً على مصداقية المستجيب من جهة وعلى حسن فهمه لمدلولاتها من جهة أخرى وهما أمران غير مضمونين، كما أن بناءها في بيئة مختلفة عنا بافتراضات تنطلق من الثقافة الغربية ثم تطبيقها في بيئتنا المحلية هو بعد آخر لا بد من أخذه في الاعتبار، وثانياً تمثّل أساليب التطبيق ركناً مهماً في جودة النتائج، وبالنسبة لبلد مترامي الأطراف مثل المملكة بتنوع مستويات وعي المعلمين وتنوع ثقافات الجهات التي يعملون فيها من مدينة كبرى إلى صغرى ثم قرية وهجرة أو هجرة نائية أحياناً فإن ذلك من شأنه أن يزيد صعوبة التطبيق ويعرضه للعثرات وربما التشويه. ولأن الدراسة دولية لها تعليمات خاصة يجب أن تطبّق بحذافيرها في كل مكان فإن التطبيق سيأخذ طابعاً رسمياً قد لا يراعي هذا التنوع بخلاف ما لو كان مصمم الدراسة والمطبّق هو جهة بحثية سعودية محلية.
والخلاصة أنه لا بد أن تعتبر نتائج مثل هذه الدراسات مؤشرات مبدئية لتتلوها دراسات محلية تسبر أغوار بعض الجوانب التي تبرزها هذه الدراسة، فهي إذن نقطة انطلاق وليست محطة نهاية، خاصة إذا لم تكن هناك مشاريع محلية أصلاً (منفصلة عن تاليس) تقيس آراء المعلمين والطلاب والمديرين بشكل دوري مع توفير توعية كافية حول أهداف ومآلات تلك الدراسات لكي يتحقق التعاون الصحي من المستجيبين للوصول إلى نتائج متفقة مع الواقع المعيش. وكثير من الدول لديها مثل هذه الدراسات، بل بعضها سابق لتاليس TALIS مما كرَّس ثقافة التعاون مع هذه الدراسات وأسس وعي المعلمين بقيمتها وما يترتب عليها من قرارات لصالح التعليم، وتُستخدم غالباً كأدوات رصد منهجي (Monitoring)، ففي بريطانيا هناك سلسلة مسوح وأعمال حكومية حول تخفيف عبء عمل المعلّمين، وقد قادت إلى «حزمة أدوات خفض العبء» School Workload Reduction Toolkit (2018)، حيث تم إطلاق وتحديث أدوات وإرشادات لتقليل التخطيط والتصحيح الورقي وعبء البيانات، واستمرت تلك المراجعات الحكومية حتى 2025 لتوسيع تطبيق التخفيض، وفي اليابان فإن مسح ظروف عمل المعلِّمين الذي أجرته وزارة التعليم MEXT عام 2016 ترتب عليه سنُّ قانون 2019 والذي يضع سقفًا لساعات العمل الإضافية للمعلمين (جزء من «إصلاح أسلوب العمل»). وفي نيوزيلندا فإن المسح الوطني للمدارس والمعلمين الذي تديره NZCER دوريًّا منذ 1989 (ابتدائي/ ثانوي)، استخدمت نتائجه لمتابعة أثر السياسات والمناهج، حيث وثَّقت NZCER أن نتائج 2019 وما تلاها آثرت تجديد وتحديث المنهج Curriculum Refresh وكذلك مسارات التقدّم التعليمي، أما في أستراليا فهناك مسح وطني ضخم عن قوة العمل التعليمية بعنوان Staff in Australia›s Schools (SiAS) 2007 -2013 وكان من أهم نتائجه إمداد صنَّاع القرار ببيانات تخطيط القوّة العاملة وإطلاق خطة عمل وطنية للمعلمين وإصلاحات حسب الولايات لكل من الأجور وعمليات استقطاب المعلمين للمهنة وأما في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى المستوى الفيدرالي فإن المسح National Teacher and Principal Survey (NTPS) الذي يجرى كل 2-3 أعوام (ويشمل ظروف العمل، والتنمية المهنية، والتقييم، وأمور أخرى) يُستخدم على نطاق واسع في تطوير السياسات والبحوث وتتبع الاتجاهات، وفي ألمانيا هناك دراسات عبء عمل المعلّمين التي تجريها نقابات وهيئات مثل VBEوفي 2025 فقد موّلتلاية ساكسونيا دراسة زمن عمل شاملة وإلزامية لعينة كبيرة على مدى عام دراسي كامل، وقد دفعت هذه النتائج إلى إجراءات على مستوى الولايات حول نماذج تنظيم زمن العمل وتكليفاته، مع توقعات بتعديلات رسمية في الأعباء تبعًا لنتائج القياس التمثيلي، وفي سنغافورة فإن وزارة التعليم تُجري مسوحًا دورية ومشاركات منتظمة مع المعلمين لمراقبة ساعات العمل والرفاه ومن أهم نتائجها الضبط المستمر للأعباء وتكييف المبادرات، والخلاصة أننا نتطلع إلى دراسة محلية شاملة لآراء كل أطراف العملية التعليمية ولكل المراحل وليس المتوسطة فقط بحيث تشمل المعلمين والمديرين وكذلك أولياء الأمور والطلبة ويتم من خلالها استنتاج نبض المجتمع التربوي ورؤاه وتطلعاته ومتطلباته، كما سوف تقدم هذه الدراسات مرجعية جيدة لفهم نتائج الدراسات الدولية مثل تاليس TALIS وبيزا PISA وغيرها من الدراسات الدولية المماثلة.