د.عبدالرحيم محمود جاموس
تُعدّ دراسة الدكتور وليد سالم المنشورة في مجلة المستقبل العربي (العدد 561، تشرين الأول/ أكتوبر 2024) تحت عنوان «الصهيونية الدينية بعد 7 أكتوبر: الاستعادة السافرة للإبادة والاقتلاع وإقلاع مشروع إسرائيل العظمى» من أبرز الإسهامات البحثية الحديثة في تحليل التحولات البنيوية داخل الفكر والممارسة الإسرائيلية بعد عملية «طوفان الأقصى»، ولا سيما في ضوء صعود التيار الديني الصهيوني إلى مركز القرار السياسي والعسكري في إسرائيل.
يرى الباحث أن السابع من أكتوبر لم يكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل لحظة انعطاف أيديولوجي عميق في بنية الوعي الصهيوني؛ إذ حرّر الصهيونية الدينية من أي ضوابط أخلاقية أو سياسية، لتعيد طرح مشروعها على أساس «الخلاص التوراتي» و»الاستعادة الكبرى» لفكرة الأرض الموعودة، ما يعني العودة إلى منطق الإبادة والاقتلاع كأدوات شرعية لتحقيق «الوعد الإلهي».
تُبرز الورقة أن الصهيونية الدينية، التي نشأت في تفاعلها مع الصهيونية العلمانية منذ بدايات القرن العشرين، كانت دائمًا الحاضن الأيديولوجي لخطاب التهويد والاستيطان. غير أنّ ما بعد السابع من أكتوبر كشف وجهها الأكثر تطرّفًا، إذ لم تعد تُخفي نزعتها الإقصائية خلف شعار «الدفاع عن النفس»، بل مارست القتل والتدمير على أسس دينية مُعلنة، تُبرّرها فتاوى الحاخامات وخطابات الحكومة اليمينية ذات التوجهات التوراتية.
ويحلّل د. سالم في دراسته العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة في إسرائيل، مركّزًا على دور أحزاب اليمين الديني مثل «الصهيونية الدينية»، و»عوتسما يهوديت»، و»شاس»، التي باتت شريكًا مباشرًا في صناعة القرار.
فقد تحوّلت هذه الأحزاب، وفق الباحث، إلى أداة لإعادة تشكيل المشروع الصهيوني نفسه على قاعدة «إسرائيل الكبرى» ذات البعد الديني الخلاصي، بما يُعيد تأسيس الدولة ككيان لاهوتي استيطاني لا كدولة قومية حديثة.
وتعتمد الدراسة منهجًا تحليليًا نقديًا يقرأ الخطابات والممارسات والرموز التي صدرت عن قادة إسرائيل ومؤسساتها بعد السابع من أكتوبر، في محاولة لفهم كيفية توظيف الدين في صياغة الوعي الجمعي الإسرائيلي.
وتخلص إلى أن الحرب ضد غزة اتخذت شكل طقس توراتي تطهيري، يسعى إلى إعادة إنتاج الذات الإسرائيلية على أنقاض الفلسطينيين، عبر نفي الآخر ومحو وجوده المادي والرمزي.
ويُبرز الباحث أن هذا التحول يحمل خطرًا وجوديًا مزدوجًا: فمن ناحية، يشرعن الإبادة كواجب ديني، ويحوّلها إلى ممارسة جماعية محمية بالقداسة؛ ومن ناحية أخرى، يعزل إسرائيل عن منظومة القيم الإنسانية والقانون الدولي، ما يجعلها نموذجًا لدولة إبادة مقدّسة تمارس العنف باسم اللاهوت.
ويرى أن هذا الانغلاق الأيديولوجي سيقود في النهاية إلى تفكّك المشروع الصهيوني نفسه، لأنه يفقد القدرة على التعايش أو التكيّف ضمن النظام الإقليمي والدولي.
تأتي أهمية الدراسة من كونها تربط بين النصوص الدينية والخطابات السياسية لتبيّن أن الصهيونية الدينية ليست مجرد تيار سياسي متطرّف، بل منظومة فكرية مكتملة تعيد إنتاج الأسطورة التوراتية في سياق حرب معاصرة.
فهي تسلط الضوء على انتقال إسرائيل من مشروع «دولة واقعية» إلى مشروع «إمبراطورية دينية»، ما يفتح الباب أمام تحولات خطيرة في بنية الدولة والمجتمع والسياسة الإسرائيلية.
وتنبه الدراسة إلى أن مواجهة هذا التحول تتطلب مقاربة فكرية فلسطينية وعربية جديدة تتجاوز التنديد الأخلاقي إلى تفكيك الخطاب اللاهوتي الصهيوني نفسه، وإعادة بناء خطاب تحرري إنساني جامع يواجه الرواية الإسرائيلية على مستويات العقيدة والهوية والذاكرة والحق في الوجود.
إن قراءة د. وليد سالم تضعنا أمام حقيقة فكرية صارخة: العدوان الإسرائيلي على غزة لم يكن ردّ فعل ظرفيًّا، بل تجسيد لمخيالٍ دينيٍ موروث يتجدّد في لحظات الأزمات ليبرّر الإبادة بوصفها خلاصًا إلهيًا. ومن هنا فإن فهم الصهيونية الدينية بعد 7 أكتوبر لا يضيء فقط على طبيعة العدوان الراهن، بل يكشف جوهر المشروع الصهيوني الذي يسعى إلى إعادة تعريف ذاته عبر محو الآخر الفلسطيني.
بهذا المعنى، تشكّل الدراسة وثيقة فكرية بالغة الأهمية، لأنها تربط بين التحليل السياسي واللاهوتي وتضع الصراع في سياقه العميق: صراع بين أيديولوجية الإبادة المقدّسة وقيم العدالة والتحرر الإنساني.
وهي بذلك تفتح أفقًا بحثيًا جديدًا أمام الباحثين والمهتمين بفهم طبيعة التحول في إسرائيل ما بعد 7 أكتوبر، ومخاطر تغوّل الصهيونية الدينية على مستقبل المنطقة بأسرها.