د. محمد بن أحمد غروي
اكتسبت الزيارة التاريخية التي قام بها جلالة السلطان إبراهيم، ملك ماليزيا، إلى المملكة زيارة دولة علامة فارقة في مسار العلاقات الأخوية بين بلدين جمعتهما مشتركات الدين والرؤية المستقبلية للأمة الإسلامية؛ فهي أول زيارة رسمية يقوم بها ملك ماليزي إلى الرياض منذ أربعة عقود منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1960، تربطهما أواصر وثيقة آخذة في النمو والازدهار في كافة المستويات والمجالات التجارية والدفاعية والدينية والثقافية والسياسية. اللقاء الذي جمع جلالة السلطان إبراهيم وسمو سيدي ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في قصر اليمامة، شكّل لحظةً مؤثرةً في مسار العلاقات بين الرياض وكوالالمبور.
فقد جاءت المباحثات في أجواءٍ وديةٍ ودافئةٍ، عكست عمق التفاهم بين القيادتين، وتقدير القيادة الماليزية لحنكة سمو ولي العهد، وإعجابها برؤية المملكة الطموحة التي تسعى إلى بناء اقتصادٍ متنوع ومستقبلٍ مستدامٍ للمنطقة بأسرها.
السلطان إبراهيم أكد من الرياض أن من مقتضيات المرحلة الراهنة ثبات السياسات واستقرار العلاقات الدولية بوصفهما مدخلًا لتعزيز الثقة وجذب الاستثمارات. وهي رؤية تتقاطع تمامًا مع ما تسعى إليه المملكة في إطار رؤية السعودية 2030، التي أصبحت نموذجًا مُلهمًا للعديد من دول شرق آسيا.
الزيارة الملكية ليست بمعزل عن الزخم المتصاعد في العلاقات الثنائية، فخلال الأشهر العشرة الماضية فقط شهدت الرياض وكوالالمبور اثنتي عشرة زيارة رفيعة المستوى، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ العلاقات السعودية الماليزية. كما قارب حجم التبادل التجاري بين الجانبين نحو 45 مليار رنجت ماليزي لتصبح المملكة أكبر شريك تجاري لماليزيا في الشرق الأوسط والشريك التجاري الرابع عشر عالميًا وشريكًا استراتيجيًا في قطاعات حيوية مثل الطاقة والصحة والتكنولوجيا الدفاعية.
جولة لجلالة السلطان إبراهيم في الشركة السعودية للصناعات العسكرية (سامي)، عكست اهتمام ماليزيا بالتعاون الدفاعي ونقل الخبرات الصناعية المتقدمة، وهو ما أكده وزير الدفاع محمد خالد نور الدين بقوله إن ماليزيا تدرس الأساليب والنماذج التي تعتمدها المملكة لتعزيز قدراتها الدفاعية للاستفادة منها. كما كانت زيارة جلالته لمقر شركة العود العربية السعودية رمزًا للتقارب الثقافي والاقتصادي بين الشعبين.
يمكنني أن أصف هذه الزيارة الملكية بالمرحلة الجديدة التي سترفع من العلاقات الثنائية بين الرياض وكوالالمبور، تتوج مسارًا من التعاون الوثيق تجسّد خلال الأعوام الأخيرة. فقد كانت زيارة رئيس الوزراء الماليزي داتو سري أنور إبراهيم إلى المملكة أول وجهة خارجية له خارج آسيان بعد توليه السلطة، في دلالةٍ واضحة على عمق العلاقات واحترام القيادة الماليزية للمكانة التي تحتلها المملكة في العالمين العربي والإسلامي. وتوالت بعدها زيارات رئيس الوزراء والعديد من الوزراء إلى الرياض في مناسبات عدة، ما عزز جسور الثقة والتعاون المستمر. كما أطلق مجلس التنسيق السعودي-الماليزي أعماله باجتماعه الأول في الرياض، في ديسمبر 2024.
جهود البلدين قد تجلت في الربط بين جنوب شرق آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي عبر استضافة المملكة القمة الأولى لآسيان ودول مجلس التعاون الخليجي عام 2023 واستضافة ماليزيا النسخة الثانية للقمة 2025، التي شكّلت جسرًا حقيقيًا للتواصل الاقتصادي والاستراتيجي بين المنطقتين. ولم يتوقف هذا الزخم عند ذلك الحد، بل توسّع التعاون الإقليمي عبر قمة آسيان والخليج والصين التي استضافتها كوالالمبور في مايو الماضي، في لحظة تاريخية جمعت ثلاث قوى ذات إرث حضاري واقتصادي ضخم، بإجمالي ناتج محلي يتجاوز 24 تريليون دولار وسكان يفوق عددهم 2.1 مليار نسمة، لتؤكد أن هذا التعاون يمهّد لعصر جديد من التوازنات الاقتصادية الدولية. تذكرنا هذه الزيارة الملكية بزيارة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- إلى ماليزيا عام 2017، رفعت مستوى العلاقات إلى مرحلة جديدة، وأثبتت أن التعاون بين المملكتين ليس خيارًا سياسيًا عابرًا، بل قدرٌ مشترك تصنعه الأخوة والإخلاص والتكامل في الرؤية والمصير محققة أهدافها بما يخدم مصالح المملكتين وشعبيهما.