عبدالوهاب الفايز
في أواخر عام 2010، نتذكر كيف ساد جو من الارتياح بين الناس بعد صدور أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، القاضي بحصر الفتيا للعامة في الأمور الدينية إلى هيئة كبار العلماء، أو الذي يعيّنهم سماحة مفتي عام المملكة.
هذه الخطوة التاريخية ساهمت في ضبط الخطاب الديني، حيث تم حصر الفتوى في هيئة كبار العلماء، مع منع الإفتاء الفردي خارج هذا الإطار الرسمي.
القرار لم يكن مجرد إجراء إداري، بل نقلة نوعية في إدارة الشؤون الدينية. خلال سنوات قليلة، انخفضت الفتاوى الشاذة بنسبة كبيرة، واستقر الخطاب الديني، وارتفعت ثقة الجمهور في المصادر الموثوقة، وتراجع الجدل المذهبي الذي كان يُستغل أحياناً لأغراض سياسية أو تطرفية.
وفي مصر قبل أشهر صدر قانون حدد بأن «تختص بالفتوى هيئة كبار العلماء بالأزهر ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء المصرية. أما الفتوى الخاصة، فيختص بها، إضافة إلى تلك الجهات، مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، واللجان المشتركة المُشكلة، وأئمة الأوقاف المؤهلون وفق شروط محددة».
قصة النجاح هذه نحتاجها اليوم في جبهة الصحة العامة. المجتمع السعودي يواجه تحدياً مشابهاً في ميدان الصحة الذي لا يقل خطورة عن الدين. لقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى عيادات افتراضية مفتوحة على مصراعيها، يقدم فيها غير المؤهلين النصائح الطبية، ويُبسّط فيها البعض الأمور إلى حد الخطر، بينما يُعقّد آخرون المسائل لجذب المشاهدات والإعلانات. وفي قلب هذه الفوضى، تبرز معلومات غذائية وحميات وهمية، وتمارين لياقة خطيرة تُروَّج على تيك توك وإنستغرام.
وفي هذا السياق، يبرز هذا السؤال الجوهري: هل يمكن تكرار نجاح ضبط الفتوى الدينية فيما أسميه «الفتوى الصحية»، عبر تنظيم ذكي وتمكين مؤسسي، مع مسارين متخصصين للمعلومات الغذائية واللياقة البدنية؟
حالياً، تشير تقديرات متحفظة لتقارير الجهات المهتمة بالصحة العامة في المملكة إلى أن ما يقارب 60 في المائة من المواطنين يحصلون على معلوماتهم الصحية من وسائل التواصل الاجتماعي. وفي تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية صدر عام 2024، تبين أن واحدة من كل أربع حالات تسمم دوائي في المنطقة تنجم عن اتباع نصائح غير مؤهلة عبر التواصل الرقمي. وحتى لا تكون الحوادث مجرد إحصائيات نتداولها، نحتاج دراسات حديثة تحلل وتدرس هذه الاحصائيات حتى يكون لدينا الأساس العلمي.
وقصص النصائح العلاجية لم تنقطع منذ سنوات بعيدة. موخراً تم تداول قصة طفلة في الرياض نُقلت إلى المستشفى بحالة حرجة بعد أن أعطتها والدتها جرعة زائدة من البنادول بناءً على فيديو تيك توك.
مريض سرطان في جدة أوقف علاجه الكيماوي ليتبع بروتوكولاً شعبياً يعتمد على زيت الزيتون والليمون. شاب في الدمام فقد 15 كيلوغراماً في شهر بحمية 800 سعرة حرارية، ليُصاب بفشل كلوي. فتاة في جدة أُصيبت بتمزق عضلي حاد بعد «تحدي 100 سكوات يومياً» دون تدرج. هذه ليست حالات نادرة، بل أعراض مرض رقمي ينتشر بسرعة البرق.
قبل قرار 2010، كانت الفتوى الدينية ساحة مفتوحة. أي شخص يملك هاتفاً ذكياً يمكنه إصدار فتوى في مسألة عقدية أو فقهية. النتيجة كانت مشكلة فكرية، وفتاوى متضاربة، واستغلالاً للدين في قضايا اجتماعية أو سياسية. بعد القرار، تحسن المشهد بشكل كبير. أصبحت الفتوى محصورة في منصات رسمية، بتوقيع علماء معتمدين، وبمراجعة دقيقة. لم يتم منع النقاش الديني، بل تنظيمه. لم يمنع العلماء، بل مُكّنوا من التواصل بمصداقية أعلى. السر في النجاح كان ثلاثياً: مؤسسات تدقق وتوثق، مع آلية عمل متجانسة، وعقوبات رادعة للمخالفين. هذا النموذج يمكن تكراره في المجال الصحي، مع تعديلات تناسب طبيعة المعلومة الطبية والسرعة المطلوبة في العصر الرقمي.
لن نكون بحاجة لإعادة اختراع العجلة. هناك تجارب دولية ناجحة يمكن الاستفادة منها وتحسينها. في سنغافورة، أطلقت الحكومة منصة «HealthHub» عام 2017، تجمع الأسئلة الطبية وترد عليها خلال 24 ساعة بفريق من الأطباء المعتمدين، مدعوماً بتقنيات الذكاء الاصطناعي، مما أدى إلى 2.5 مليون مستخدم شهرياً وانخفاض زيارات الطوارئ غير الضرورية بنسبة 22 في المائة، مع السماح للأطباء بالنشر الشخصي بشرط وضع شارة «معتمد» ومصادر علمية.
أيضا في بريطانيا، طورت هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) نظام الشارة الرقمية الزرقاء، يحصل عليها الأطباء بعد التحقق من مؤهلاتهم، وتُحذف المحتويات المضللة تلقائياً. أما أستراليا، فأنشأت منصة «HealthDirect» التي ترد على 1.2 مليون استفسار سنوياً، وتفرض قيوداً صارمة على الإعلانات الطبية. وفي الإمارات، أطلقت وزارة الصحة منصة «الطبيب الافتراضي» مع قانون إعلامي جديد (2023) يفرض غرامات تصل إلى 150 ألف درهم للادعاءات الكاذبة، مما أدى إلى إغلاق حسابات تروج لعلاجات وهمية.
بناءً على مبادرة ضبط الفتوى، واستثمارا للتجارب الدولية، نحتاج في المملكة إنشاء مشروع وطني للفتوى الطبية. قد يكون الأنسب ان يتولى (المجلس الصحي السعودي) إدارة هذا المشروع والإشراف عليه. وربما يعمل وفق ركيزتين: التنظيم الذكي والتمكين المؤسسي، مع مسارين متخصصين.
أولاً، يُمنح الأطباء والباحثون شهادة «مُصدّق طبيًا» بعد تقديم سجلهم العلمي وموافقة هيئة التخصصات الصحية تظهر كشارة رقمية على كل منشور طبي، مع عقوبات تصاعدية لمن يقدم نصائحاً بدونها: تحذير، ثم غرامة، ثم سحب الرخصة.
في مسار المعلومات الغذائية، يُقتصر الإصدار على أخصائيي التغذية العلاجية المرخصين من الهيئة السعودية للتخصصات الصحية والأطباء المتخصصين، مع شارة خضراء «مُصدّق غذائيًا» وقالب إلزامي يتضمن المصدر والتحذير واسم المُصدِر. يُمنع الإعلان عن منتجات غذائية إلا بموافقة هيئة الغذاء والدواء، وقد نحتاج إطلاق منصة فرعية قد تكون بعنوان: «غذاؤنا» لتحليل الوجبات بالذكاء الاصطناعي ودردشة مع أخصائي. ونفس الشيء يطبق مع أمور الرياضة واللياقة البدنية.
للتمكين، تُطلق - ضمن ممكنات المشروع - منصة «اسأل طبيب» الرسمية تشمل تطبيقاً وموقعاً وحسابات على تويتر وتيك توك، يديرها أطباء متطوعون مدعومون بذكاء اصطناعي، ترد فورياً على الحالات البسيطة، مع حملات مشتركة مثل «حقيقة طبية في 60 ثانية» و«وجبتك بأمان» و«تمرينك بأمان»، هذه أمثله للتوضيح.
بناءً على تجارب دولية (مثل سنغافورة وبريطانيا) وبيانات محلية من وزارة الصحة ووزارة الرياضة السعودية، نتوقع مع تطبيق النموذج انخفاض الأخطاء الطبية بنسبة 50%، والسمنة 20%، وإصابات اللياقة 60% خلال خمس سنوات، مع ارتفاع ثقة الجمهور إلى 85%، وتوفير يصل إلى خمس مليارات ريال سنوياً من تكاليف العلاج غير الضروري. لقد نجحنا في ضبط الفتوى الدينية لأننا بنينا مؤسسة موثوقة، منصة موحدة، ونظاماً رادعاً. اليوم، آن الأوان لبناء مؤسسة موثوقة للصحة الرقمية، تبدأ بتنظيم المعلومات الغذائية واللياقة، ليس بالمنع، بل بالتنظيم والتمكين. هذا المشروع سوف يساعد على إنشاء مظلة وطنية تحمي الجمهور من تلاعب الحسابات الرقمية التي تجمع الثروات من ترويج المعلومات الصحية الخاطئة والمضللة.
أمامنا فرصة قائمة لاستثمار ثقة الناس بمؤسسات الدولة الرسمية.