د. إبراهيم بن جلال فضلون
«من أساء إلى الإنسانية فقد خسر مكانه فيها». هكذا رد الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، لينطبق القول على الإسرائيلي الآن، الذي يخسر مكانه في العالم كما خسر إنسانيته في فلسطين، بل رد عليه مثلٌ عربيّ قديم يلخص الحكاية بأكملها: «من شبّ على اللؤم شاب عليه»، فمنذ أن صار الإسرائيلي يجوب الأرض حاملاً جواز سفرٍ مُلطخًا برائحة الدم والغرور، وينام بلا أنين، يُصاحبه كابوس الأبرياء، فلم يعد غريبًا أن تُغلق في وجهه الأبواب، وأن تتبرأ منه الشواطئ والمقاهي والفنادق. بسبب أفعالهم وما حملوه معهم من سلوك، فلم يكن تذكرة سفر، بل كان امتدادًا لثقافة احتلالٍ لا تعرف سوى التمرد على القيم والقوانين.
في تايلند، بدأت القصة بتسامحٍ شرقيٍّ أصيل، بلد البسمة والهدوء ليستقبلوهم بكرم شرقي وأذرعٍ مفتوحة، كما يستقبل كل سائح جاء يبحث عن صفاء الروح بعد ضجيج الحرب. لكن سرعان ما انقلب المشهد؛ فالضجيج لم يبقَ في صدورهم، بل انفجر في شوارع مدينة «باي» الهادئة، حيث السكر والصراخ، والاعتداءات، وازدراء السكان المحليين بعبارة «أموالي بنت بلدكم»، وكأن المال وحده يغسل قبح الأخلاق.
إنها صرخة مجتمعٍ ضاق ذرعًا بالغطرسة الإسرائيلية كغيره من الشعوب حتي أقوى حلفائها كالأمريكان والهولنديين والفرنسيين، فالسلطات التايلندية لم تجد بُدًّا من إصدار «إرشادات سلوك» باللغة العبرية، وهي سابقة لم تحدث مع أي جنسية أخرى.
فتخيّل أن دولة تُجبر على تعليم فئةٍ من السياح كيف تكون بشرًا! حتى اللافتات على أبواب المطاعم صارت واضحة وصريحة: «السياح القادمون من إسرائيل غير مرحّب بهم هنا». وكما قلنا تايلند ليست وحدها في هذا الموقف. هناك ما لا يقل عن سبع دول باتت تتوجس من استقبال الإسرائيليين أو تتخذ إجراءات ضدهم، من أثينا التي منعت سفنهم من الرسو، إلى جزر رودس وسيروس التي شهدت احتجاجات صاخبة ضدهم، مرورًا بوجهاتٍ آسيوية أخرى كالهند ونيبال، حيث تكررت ذات المشاهد من الفوضى وقلة الاحترام.
إنهم شعب حفر في الأذهان صورة إسرائيلية مُتهالكة في أعين شعوب العالم، لا تصلح حتى كغلافٍ لمجلة سياحية.
فالاحتلال لا يخلع بزّته العسكرية حين يركب الطائرة، بل يحملها معه في سلوكه أينما رحل ونزل. وإن كان العالم قد ملّ من عنفهم في السياسة، فهو اليوم يرفض عنفهم في الحياة اليومية. وليس أدلّ على ذلك من مشهدٍ متكرر في تايلند: سياحٌ يرفضون دفع الحساب في المقاهي، يسرقون المتاجر، يخربون المستشفيات، ويعملون دون تراخيص، ثم يصرخون: «أنتم معادون للسامية!»، متناسين أن الشعوب لا تكره الديانة، بل تكره من يشوّه إنسانيته باسمها..
وليس الشعب فقط فحتى عندما اجتمعت السلطات التايلندية مع مسؤولين في تل أبيب لمناقشة هذه التصرفات، جاء الرد الإسرائيلي ببرودٍ معتاد: اتهام الآخرين بالعنصرية.
إن الانعكاسات الدولية بدأت تظهر بوضوح. حتى ضجت بها التقارير الإسرائيلية نفسها والتي اعترفت بأن 56 % من الإسرائيليين يخشون السفر إلى الخارج، خشية الغضب الشعبي العالمي، بينما فقد أكثر من ثلثيهم الثقة بحكومتهم.
إنها ليست أرقامًا عابرة، بل مؤشرات على عزلةٍ بدأوها منذ أن وضعوا أقدامهم في فلسطين، وآخذة في الاتساع، عزلةٍ لم تصنعها المؤامرات كما يزعمون، بل صنعتها أيديهم ولسانهم وسلوكهم..
إنها عقلية الاحتلال ذاتها: لا يخطئون أبدًا، بل العالم كله مخطئ سواهم.. وهنا نرى تحوّل السلوك الإسرائيلي في الخارج إلى عبءٍ دبلوماسي وسياحي. لتذهب دولاً كثيرة كانت تتسابق لجذب السياح لوضع «استثناءاتٍ» عندما يكون القادم من تل أبيب. بل إن بعض شركات السياحة في أوروبا وآسيا بدأت تُراجع سياستها تجاه الوفود الإسرائيلية، خشية الإضرار بسمعتها بين السياح الآخرين.
إنها أزمة أخلاق قبل أن تكون أزمة سياسة. فالعالم لا يُقاس بعدد الصفقات العسكرية ولا بمستوى القوة النووية، بل يُقاس بمدى احترامه للآخرين. والإسرائيلي –في سلوكه الخارجي – أثبت أنه لم يتعلم من تاريخه إلا الغرور.
وأخيراً: الاحتلال ليس جغرافيا فقط، بل ذهنية. ومن اعتاد أن يحتل أرض غيره، سيحاول أن يحتل طاولة مطعمه، أو الصف الأول في محطة القطار، أو حتى حق الآخرين في أسرة المستشفيات أو الاحترام. لذلك فإن رفض الشعوب لهم لم يعد مجرد ردّ فعلٍ لحرب، بل عقوبة اجتماعية لسلوكٍ لا يتغير.
لقد آن للعالم أن يقول بصوتٍ واحد: احترم لتُحترم، أو ابقَ في عزلتك حيث لا يسمعك أحد.