د.إبراهيم بن عبدالله السماري
تحتفظ ذاكرتنا التأريخية بحملة أبرهة الأشرم قبل الإسلام لهدم الكعبة، ومحاورته مع عبدالمطلب، جدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبارته الشهيرة: «أنا رب الإبل وللبيت ربّ يحميه»، لكن القليل من الباحثين نشَّط هذه الذاكرة لقراءة أبعاد وأسباب احتلاله لسواحل اليمن، والعلاقات بين اليمن والحبشة عبر أطوار التأريخ، وتنصيب أبرهة الحبشي ملكاً على اليمنيين وهو الأجنبي عنهم، ثم انتهاءً بحملته لهدم الكعبة، وهذا مثار سؤال مهم: «كيف استطاع أبرهة ذلك برغم ما عرف عن شدة بأس اليمنيين، وعدم قبولهم بأن يملكهم أجنبي جاء من وراء البحر ليحكم أرضًا لم تكن أرضه؟! هذا المثار قامت بتحليله الباحثة منار، في بحث علمي من خلال دراسة تأريخية في رسالة ماجستير تقدمت بها أ. منار بنت سعود العجمي لقسم التأريخ بكلية الآداب في جامعة الملك سعود بالرياض بعنوان: (أبرهة الحبشي وحملاته على وسط وشمال غرب الجزيرة العربية)، ثم طبعته في كتاب جميل نشرته دار ملامح بالإمارات العربية المتحدة.
هذا الكتاب يؤكد بالتوثيق العلمي والتحليل المنطقي والواقعي، مع بروز شخصية المؤلفة وذائقتها البحثية، أن احتلال أبرهة الحبشي لليمن وما تبعه من حملات على الجزيرة العربية لم يكن مجرّد فصلٍ من فصول الصراع بين ملوكٍ يتنازعون التاج، بل كان مشهدًا من التحوّل العميق في تاريخ الجنوب العربي، حين انكفأ المجد الحميري القديم وارتفعت راية الغريب على الساحل اليمني، ثم على صنعاء نفسها، في أتون صراع ذي نواس الحميري مع الأحباش، فدلفت جيوش أرياط من ضفاف البحر إلى تهامة وعدن، تنشر نفوذ النجاشي على بلادٍ عُرفت بصلابتها واعتدادها بأنسابها، لكن الخلاف دبّ بين أرياط وقائده أبرهة الأشرم، واحتكما إلى السيف، فكانت الغلبة لأبرهة الذي خطّ بذكائه ودهائه طَرِيْقَهُ من تابعٍ مطيع إلى ملكٍ متوّج باسم النجاشي، ثم باسمه وحده. وهكذا في منعطفٍ من منعطفات التاريخ، حين تترنّح الممالك وتتهاوى التيجان، يولد من بين الركام حاكمٌ غريب، يمدّ يده إلى أرضٍ ليست أرضه، فيجد فيها موطئ سلطانٍ جديد، تلك الأرض كانت اليمن؛ التي كانت تُطاول المجد بجبالها، وتُنازل البحر بشواطئها، حتى إذا كلّت من الحروب، وأسلمتها الفتنةُ إلى التعب، جاءها أبرهة الحبشي من وراء البحر، لينصِّب نفسه ملكًا عليها، ويكتب فصلاً غريبًا في سجلّها الطويل.
لقد بدأ حكم أبرهة من الساحل، حيث نزل الأحباش أولاً، ثم مدّ سلطانه على الجبال والسهول، حتى دانت له اليمن كلّها. والغريب أن اليمنيين، وهم الذين طالما عُرفوا بشدّة البأس وعزّة النفس، قبلوا حكمه الأجنبي. فكيف حدث ذلك؟ قامت الباحثة أ. منار بتحليل الأسباب، مشيرة من قريب أو بعيد إلى عدة أسباب منطقية وواقعية وهي:
1 - الفراغ السياسي بعد سقوط دولة حمير، حيث سقطت سقوطًا مروّعًا بعد مقتل ذي نواس، وخلت الساحة من زعيمٍ يوحّد القبائل، والزعامة؛ والقيادة ضمانٌ للاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، فبعد مقتل ذي نواس، تفكّكت القبائل وضاع الرمز القائد الجامع، فاستبدّ الخوف من الفوضى بالرغبة في الحرية، ولأن الناس إذا أضاعوا الرأس احتاجوا لظلّ سلطةٍ ولو كان غريباً؛ فقد وجد أبرهة الباب مفتوحاً.
والشيء بالشيء يُذكر، فهذا الاستنتاج واضح في تأسيس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - المملكة العربية السعودية؛ قائداً مؤسِّساً وموحِّداً، لإدراكه أنه حين تضيع القيادة، ينثلم السيف وتتبعثر الكلمة، ويغدو الناس أسرى الحاجة إلى حاكمٍ يحفظ الأمن والحرية.
2 - الذكاء السياسي لأبرهة، فلم يأتِ فاتحًا بالسيف وحده، بل بالدهاء أيضًاً، فأعلن ولاءه للنجاشي ظاهراً، ثم لجأ إلى كَسْب الزعماء اليمنيين بالعطايا والمناصب، فهادنوه، ثم دانوا له؛ فذلك دهاءُ الغريب أبرهة الحبشي، حين دانت له اليمن برغم بأسها في لحظةِ ضعفِ الممالك، وحين رسخت أقدامه، بنى في صنعاء كنيسة «القليس» التي أراد أن يجعلها قبلةً للعرب بدل الكعبة، ولم يقصد من ذلك بناء رمزٍ دينيٍ فحسب، بل قصد إعلان بيانٍ سياسيٍّ وقيادي يُظْهِر قدرته على العمران والتنظيم، حتى كتب نهايته بيده حين قاده غروره أن يسير إلى مكة بجيشه الكبير في الحادثة التي خلدها القرآن الكريم بـ«أصحاب الفيل»؛ طامعاً أن يمدّ سلطانه من الأرض إلى السماء، فكان سقوطه قَدَرًا من الله - عز وجل -، ليعيد الأمور إلى نصابها، ويعلن أن ملك الأرض لا يعيش إن تجاوز حدّه لما هو ملك مَن في السماء سبحانه وتعالى.
3 - الصراع الديني والسياسي، بعد حروبٍ طاحنة بين اليهودية والنصرانية في اليمن، حتى سئم الناس هذا الصراع، فجاء أبرهة بوعود الأمن والرخاء، فقبلوه بوصفه حاكم الاستقرار والملاذ من الفوضى، لا غازيًا محتلًا.
4 - التدرّج في السيطرة، فلم يبدأ أبرهة في التصادم مع القبائل اقتحاماً، بل اخترقها بالحكمة، لقد بدأ حكم أبرهة من الساحل، حيث نزل الأحباش أولاً، ثم زحف ببطء نحو الداخل، فمدّ سلطانه على الجبال والسهول، حتى دانت له اليمن كلّها، وحين صار الأمر أمره أصبح الناس حوله بين راضٍ طامع وساكتٍ خائف.
وهكذا دانت اليمن لرجلٍ غريب عنها، لا لأنه غلبها بالسيف، بل لأنه أدرك لحظة ضعفها التاريخية، واستغل فراغها السياسي، فجلس على عرشها بدهاء لا بعنف.
ثم عوداً على بدء؛ سأحاول إعطاء ومضات وصفية سريعة لما في كتاب «أبرهة الحبشي وحملاته...» ففي المقدمة بيَّنت الباحثة منار العجمي أهمية موضوعها سياسياً وتأريخياً ودينياً، واجتماعياً واقتصادياً، كما ركزت على أهم جوانب شخصية أبرهة الحبشي وصفاته القيادية، وأثره في مسار الأحداث والتوجّهات، وفي مشكلة البحث تناولت طموحاته المتمثلة في حملاته العسكرية وأهدافه السياسية والدينية والاقتصادية، ثم أوضحت أهداف دراستها الساعية إلى إبراز الأوضاع والسياسات والدوافع الحقيقية التي انتهجها أبرهة، وموقف اليمنيين تجاهها، ومقارنتها بدوافعه في حملته إلى مكة، وتقييم موقف العرب من حملاته كلها، مبرزة النهايات والنتائج لأبرهة وحملاته، ملفتةً النظر إلى منهجها البحثي، والدراسات السابقة لدراستها سلباً وإيجاباً، ليجيء الفصل الأول بياناً مفصلاً وموثقاً عن (الظروف السياسية التي أسهمت في وصول أبرهة الحبشي لحكم بلاد اليمن)، مستعرضة في هذا الفصل العلاقة بين اليمن والحبشة، وصور التدخل الأجنبي السياسي والديني والاقتصادي في بلاد اليمن خلال القرن السادس الميلادي، وموقف اليمنيين من هذا التدخل وأثره، وفي الفصل الثاني سلطت الضوء على (أبرهة الحبشي ملك بلاد اليمن) حيث عرَّفت بالملك أبرهة، واستعرضت الروايات التأريخية لحكمه بلاد اليمن، وردود الفعل الدولية تجاهه، وسياسته الداخلية وموقف القبائل اليمنية منه وكيفية تعامله معها، وأعماله في اليمن، وتعامله مع الصراع الديني هناك، وسياسته مع الإمبراطورية البيزنطية، والأوضاع السياسية في الجزيرة العربية إبّان حكمه واستغلالها لمدّ نفوذه خارجياً. ثم خصصت الفصل الثالث للتركيز على سرد وتحليل أحداث وأبعاد (حملات أبرهة الحبشي على وسط وشمال غرب الجزيرة العربية) فبدأت بحملته على وسط الجزيرة العربية معيدة أسبابها إلى دوافع سياسية لمواجهة توسع نفوذ اللخميين هناك، واقتصادية لوقوعها على الطريق التجاري لتجارة اليمن والبلاد المجاورة، وعسكرية لمواجهة التمرد عليه، موثقة ذلك من خلال قراءة النقوش في تلك المنطقة وذلك العهد، وموضحة في المنتهى نتائجها. ثم تناولت حملته على مكة المكرمة، مشيرة إلى أسباب بروزها في القرن السادس الميلادي، ثم بناء كنيسة القليس لتحويل جميع العرب إليها ونيته هدم الكعبة، وموضحة موقف العرب من حملته، بين رافض، ومناصر له نكاية بعرب مكة، وصابغة بحثها بصبغة أدبية من خلال إيراد مقف الشعر الجاهلي من هذه الحملة وما تمخض عن ذلك من هلاك أبرهة بسبب جرأته الطاغية على الله - عز وجل -، وفي الخاتمة ذكرت الباحثة أهم النتائج التي توصلت إليها، ومن ذلك النقوش التي حفظت الذاكرة التأريخية لهذه الحملات.
وخَتْماً للقيل أقول: لقد تأملت هذا الكتاب فظهر لي أن في قصة أبرهة درسًا خالدًا يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ؛ فالشعوب لا تُهزم حين يُكسر سيفها، بل حين ينكسر وعيها وتستبد بها الفُرقة. وما من غريبٍ يعلو على أرضٍ عزيزة إلا لأن أهلها، لحظةً ما، غفوا عن حراسة مجدهم. فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا حين نكرّر غفلتنا، وحين ننسى أن الممالك تسقط أولاً في القلوب قبل أن تسقط على الخرائط.
وهنا يجدر التنويه إلى أن هذه العِبَر هي ما تركز عليه فعاليات اليوم الوطني في بلادنا الحبيبة بعزم حكومتنا الحكيمة، وحزم قيادتنا الرشيدة؛ فأحببت مشاركة القراء الأعزاء لهذا التأمل العميق، ولهذا الكتاب الثري بمعلوماته، وأسلوبه العلمي الرصين، ومعالجته الصياغيِّة الجميلة. وما توفيقي إلا بالله تعالى ونعم المستعان.