د.عبدالله بن موسى الطاير
على مدى عقود تمكن الإعلام الجماهيري الليبرو ديموقراطي من بناء اجماع حول نسق محدد من الحكم، وأرغم القطيع على التماهي مع هذا الاجماع وحرّم الخروج عليه واعتبر المغردين خارج السرب خطرا على السلم الاجتماعي وقمعهم وألغاهم وجّرم مساعيهم.
اليوم تغيرت قواعد اللعبة، فالإعلام الجماهيري الذي كان قادرا على تشكيل توجهات الرأي العام لم يعد بتلك الفاعلية في التحكم بالمشهد، فقد أعطت شبكات التواصل الاجتماعي منابر لمن لا منبر له، وميادين افتراضية للحشد أوسع وأعمق تأثيرا من الميادين والساحات وسط المدن والتجمعات السكانية.
أحدث فوز زهران ممداني في سباق عمدة مدينة نيويورك، عاصمة الرأسمالية، صدى يتجاوز حدود المدينة؛ ليس مجرد انتصار لمرشح ديموقراطي يساري تقدمي، بل هزة سياسية تعكس التحول العميق في المجتمع الأمريكي، وبالتالي، النظام العالمي الليبرالي الذي قاده الأمريكيون إلى نوفمبر 2016م عندما انتخب الرئيس ترامب في ولايته الأولى.
على مدى سبعة عقود ونيف، سارت السياسة الغربية في إطار إجماع مريح تمثل في الأسواق الحرة، والعولمة، والديمقراطية الليبرالية، والقيادة الأمريكية.
شكّل هذا التوافق، الذي ولد على أطلال الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، عقودا من الاستقرار والازدهار، على الرغم من الحروب المحدودة، والأزمات هنا وهناك.
اليوم، يمكن القول وبدون تحفظ أنه ينهار بشكل جلي للعيان. الغضب الشعبي الأمريكي المتراكم بعد حقبتي بوش الابن وأوباما حفّز صعود دونالد ترامب من أقصى اليمين الجمهوري، وهي الظروف ذاتها تقريبا التي صعدت بشخصية مثل ممداني في أقصى اليسار الديموقراطي. يمكن القول إن كلا الظاهرتين ولدت من رحم خيبة أمل واحدة تجاه نظام يُنظر إليه على أنه نخبوي، وغير متكافئ، ومنفصل عن المواطنين العاديين.
ممداني، الاشتراكي الديمقراطي من أصول أفريقية وجنوب آسيوية، يُجسّد ثورة جيلية، فهو الدالف للتو إلى الرابعة والثلاثين من العمر، وهو ضمن جيل الألفية الجار العمري لجيل زد، الذي يحدث تغييرات واسعة النطاق.
تحدى ممداني نفوذ الشركات، والتفاوت العرقي، وهي قضايا لطالما تجاهلها الديمقراطيون التقليديون. كما أنه اجتاز تشابكات السياسة الخارجية وبخاصة العامل الإسرائيلي في تحديد هوية القيادات الأمريكية، ليكشف بفوزه أن رغبة الناخبين في التغيير المنهجي لم تعد شعورا هامشيا، بل مطلبًا سائدا غير مرتهن للتابوهات.
اللغة السياسية التي حكمت العالم الحديث كالقيادة، والمصالح، والديمقراطية، والرأسمالية، تُعاد صياغتها بنكهات شعبوية شابة تطرق المسكوت عنه من القضايا. فهي تستنبت نمطا أصيلا من القيادة تفضيلا على الأطر المتوارثة.
وتُعرّف المصالح بشكل متزايد بالهوية والبقاء، لا بالتحالفات أو الأيديولوجية، فأمريكا أولا وقبل إسرائيل، وهو ما لم يكن متخيلا أن يحدث في القريب المنظور، إلا أنه حدث وكسب. أما العولمة، التي كانت في يوم من الأيام رمزًا للتقدم، فتُصوّر حاليا على أنها أداة للتبعية والاستغلال، ويجري كسر أغلالها بالتعريفات الجمركية، بغض النظر عن تأثيرها على الاقتصاد العالمي.
بل وحتى الديمقراطية نفسها، واسطة عقد المنظومة الليبرو ديموقراطية، والتي لطالما افتخر الغرب بها وعمل على تصديرها، تواجه تشكيكا متزايدا في الداخل والخارج. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية، الحارس المفترض للديمقراطية الليبرالية، تُعيد تعريف هويتها السياسية، فإن التداعيات العالمية ستكون هائلة لا محالة، وستدخل بالعلاقات الدولية عصر ما بعد الليبرالية الديموقراطية.
وخلاصة ما يجري أن العالم لم يعد منتظما في الفلك الأمريكي، بل مضطربا حول رؤى أمريكية داخلية متنافسة، تزاحمها خارجيا رأسمالية الدولة الصينية، وقومية الدولة الروسية، وموجة متصاعدة من الحزم والحسم الإقليمي في الجنوب العالمي.
يمكن القول إن الصين وروسيا مستفيدتان من هذا التعب الأيديولوجي الذي ران على عصب المجتمعات الغربية. إنهما يُقدّمان لدول الجنوب العالمي التي سئمت من المحاضرات الغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان نموذجين بديلين، فالفوضى الداخلية للديمقراطيات الليبرالية، والانتقائية والمعايير المزدوجة لحقوق الإنسان قد قوّضت مصداقيتها على نحو لم يعد مجد في ترميمها أية حملات دعائية خارجية.
صعود زهران ممداني، ليس مؤامرة، ولا نتيجة لدولة عميقة تتولى مقاليد الحكم في أمريكا فترفع من تشاء وتخفض من تشاء، كما أنه ليس مجرد قصة أمريكية محلية. إنه مرآة تعكس الوهن الأخلاقي والأيديولوجي لنظام يترنح، ولسعي جيل جديد ودؤوب - ممكن بأدوات فاعلة في الوصول- لتحدي الأنساق السائدة للحكم، ويعيد ترتيب الأولويات بناء على فهمه وليس ما ورثه من إجماع نخبوي مصطنع.
وسواء أكانت هذه اللحظة مؤذنة بتجديد ديمقراطي أم استمرار عدم الاستقرار، فسيعتمد المستقبل على قدرة القادة الجدد على توجيه السخط الاجتماعي نحو هدف مشترك بدلا من الغرق في الفوضى.