د. ناهد باشطح
فاصلة:
«في عصر السرعة، الخطأ ينتشر أسرع من الحقيقة»
- الفيلسوف اومبرتو ايكو -
* * *
انتشر خلال شهر أكتوبر الماضي عبر الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي فيديو، قيل إنه تصميم لأول «ملعب في السماء» في العالم، والذي من المقرر بناؤه في «نيوم» المملكة العربية السعودية لاستضافة كأس العالم 2034.
أثار الفيديو الجدل لغرابة التصميم كما حقق أكثر من 50 مليون مشاهدة في منصة «فيس بوك» عبر حساب «Hypora UltraWorks» الذي صمم الفيديو ونشره في 13 أكتوبر 2025 .. بالبحث عن المصادر الرسمية، لا يوجد أي خبر عن علاقة الفيديو بنيوم!
والسؤال: لماذا حقق الفيديو مشاهدات عالية جداً؟ ولماذا صدّق الإعلام الغربي الوهم؟
حين نقرأ ما كتبته بعض الصحف الغربية عن «بذخ السعودية» في تصميم مشروع ملعب السماء، ندرك الانعكاسٌ لصورة ذهنية راسخة في الإعلام الغربي، فهذه الصحف، التي تسارع عادة إلى انتقاد المبالغة السعودية في الإنفاق، وجدت في الفيديو مادة تؤكد قناعتها بأن السعودية لا تعرف حدودًا للترف.
المشكلة لم تكن في الذكاء الاصطناعي الذي أنشأ الفيديو، بل في التحيّز البشري الذي صدّق علاقته بالسعودية بسبب جملة وضعها صانع محتوى كتعليق على الفيديو مضيفاً كلمة «نيوم».
وبالرغم من أن الحساب الذي نشر الفيديو صرّح بأن التصميم لا علاقة له بالسعودية، وقال: «.. لم يكن لدي أي علم بأي مشروع سعودي عند تصميم هذا العمل! لقد كان مجرد فكرة تخيّلية باستخدام الذكاء الاصطناعي، استكشفت من خلالها كيف يمكن أن يبدو ملعب كرة قدم داخل ناطحة سحاب..» إلا أن الصحف العالمية لم تتورع عن انتقادها لبذخ السعودية والتندر على تطبيق التصميم على أرض الواقع دون أي اهتمام بالبحث عن بيان رسمي من «نيوم».
كما أن مواقع التواصل الاجتماعي، أسرعت عملية الانتشار قبل التحقق، لأنها تعمل وفق خوارزميات تُكافئ «الإثارة» لا «الدقة».
في مثال «ملعب نيوم في السماء»، انتشر الفيديو أولًا عبر منصات «إنستغرام» و»تويتر» و»تيك توك» بعد ربطه بالسعودية لأن الخوارزميات رصدت تفاعلاً مثيراً.
كما أن ظهور «صحافة المواطن» منح الناس قدرة صناعة محتوى دون مهنية، فتحوّل بعض المواطنين من شهود على الحدث إلى صنّاع للقصص، وما زاد الطين بلّة أن الصحف أصبحت تستند على مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر، وليس من المفاجئ في حالة خبرنا هذا أن تجد مصادره في صحف مثل «The Daily Mail أو The Economic Time وغيرها تغريدات لحسابات شخصية من «تويتر» تذكر أن تصميم الملعب يخص «نيوم».
الفيديو الذي نُسب إلى «نيوم» هو في الأصل عمل فني من إنتاج مصمم مستقل، صنعه لأغراض العرض البصري، ومع إعادة نشره بتوصيف خاطئ، انتقل الفيديو من كونه خيالًا رقميًا إلى مشروع يتم تداوله كخبر، هنا يحدث ما يسمّى «تضخيم المعنى عبر إعادة الصياغة»، ولعبت تقنيات التأطير الإعلامي دورًا بارزاً من خلال عناوين مثيرة، غموض في التفاصيل، وبذلك، انتقل فيديو مولد بالذكاء الاصطناعي من الهامش إلى مركز النقاش العالمي.
لكن السؤال العميق هو عن مسؤولية المتلقي والصحفي تجاه الأخبار الزائفة، لعلنا اليوم بحاجة إلى «صحافة الوعي» التي تتساءل قبل النشر: هل يحقّ لي أن أقدّم ما أراه كحقيقة دون التثبّت من المصدر الأصلي؟
نحن اليوم ومع تضارب الأخبار بحاجة إلى ثقافة تحقق جديدة تتشارك فيها المؤسسات والجمهور، حيث يصبح «المتابع الواعي» جزءًا من عملية فرز الأخبار، وتستعيد الصحافة دورها الأخلاقي كحارس للوعي لا ناقل للفوضى.
ويبقى السؤال:
هل سنرى في المستقبل القريب أقسامًا للتحقق وتفنيد الأخبار الزائفة داخل كل مؤسسة إعلامية عربية؟!
المصادر
- Hicks, G. (2025, October 28). Football»s first skyscraper stadium? Design for Saudi Arabia»s 46,000-seat World Cup venue, 1,000ft up in the air, emerges - but major questions remain. Daily Mail.