عبدالله العولقي
حديثُنا اليومِ عن شاعرٍ من طرازٍ فريد، تتقاطعُ في شخصيّته باقةٌ متنوّعةٌ من الابداعاتِ والاهتمامات، سيرةٌ طموحةٌ لمْ تكنْ ترضى في مسيرتها التي بلغت خمسة وثمانين عاماً (1921م-2007م) إلّا بالنجاحِ والتّميز، فتبوّأت المجدَ من كلّ أطرافه، سياسيّاً وتجاريّاً ورياضيّاً وثقافيّاً وأدبيّاً، كان صالونُه الأدبي في مدينة جدة قبلة الأدباء والمثقفين السُّعوديين وعمالقة الشعر والأدب في الوطنِ العربي، عامراً على الدّوامِ باللقاءاتِ الشعريّة والثقافيّة والأدبيّة، وملتقىً لاستضافةِ عمالقةِ الشعر والأدب، والحقيقة أنّ مساحة المقالِ لا تكفي لتغطيةِ سيرةٍ بحجمِ قامةِ الأمير عبدالله الفيصل، ولكنّنا سنتحدثُ الآن عن الجانبِ الأدبيِّ، وتحْديداً عن موهبتهِ في كتابة الشعرِ الوجْداني، هذه الموهبة التي تأصّلت في شخصيّته منذُ صغره، فكان عاشِقاً مُحبّاً لسحْرِ الكلمة، مُولَعاً بالشعر، مُغرَماً بالقصائدَ الرومانسيّة.
أصدرَ الفيصلُ عدّة دواوينَ شعريّة، وكان يُوقِّعُ قصائدَه بلقبِ المحروم، وكان يُبرّرُ ذلكَ دائماً بقوله: إنّ السعادةَ لا تتحققُّ بالجاهِ أو المناصبِ أو الثروةِ أو المالِ أو حتّى بالجمال، وأنّ فقدانَ المرءِ لها وحرمانه منها ناجمٌ عن تأثر أحاسيسِه بعواملَ أخرى من الألمِ والأسى، تُشْغله وتسْتأثرُ به عن الشعورِ بالسعادة، وقدْ تكونُ قصائدُه المغنّاةُ أشهرَ ما يتداوله الناسُ على ألسنتهم نتيجة ذيوعها الواسع من الخليجِ الى المحيط، وسنبتدأُ أولاً برائعتِه (ثورة الشك) التي لوْ بحثنا عنْ عنوانٍ مرادفٍ لها فسيكونُ بلا شكٍ (صراعُ الحواس)، يقولُ أحدُ علماءِ النفس: إنّ أصعبَ المعارك التي يخوضها المرءُ في حياته هي تلكَ التي تدورُ بين عقلِه الذي يعرفُ الحقيقة، وقلبه الذي يرفضُ أنْ يتقبّلها!!.
هذه المقولة النفسيّة البليغة هي محورُ قصيدة (ثورة الشك)، فهذه التحفةُ الأدبيّةُ تتحلّى بخاصيّةِ فوضى المشاعرِ والأحاسيس والتي تحاصرُ بطلَ القصيدةِ من كلِّ حَدبٍ وصوب، ذلك البطلُ أو العاشقُ المُبْتلى بالشكّ، العاشقُ الذي يحاصرُه تفكيرُه من خلالِ طريقين أساسيّين: هل تخونُه حبيبتُه فعلاً؟، أمْ أنّ تلك المشاعرِ والأحاسيسِ هي مُجرّدُ ظنونٍ وأوهام؟، فالحديثُ هنا عن الغوصِ في أعماقِ شخصيّة البطل، وأعني الإبحار داخل خلايا جسده وحواسّه التي تضجُّ بالحيرةِ والشكّ:
وكمْ طافتْ عليّ ظِلالُ شكٍ
أقضّتْ مَضْجَعِي واسْتعْبَدَتْني
هناك حيثُ يُصوّرُ الشاعرُ ببراعةِ الفنانِ البارعِ مشاهدَ الصراعِ والمشاحنةِ بين أعضاءِ الحواسِّ داخلَ الجسد، وتحديداً باتجاهِ ثلاثة أعضاءٍ حيويّة، الأُذْنُ التي تُرخي أداتها السّمْعِيّة لنقلِ ما يقولُه الآخرون، فتتخذُ موقفَ إثبات واقعةِ الخيانة:
يقولُ الناسُ إنكَ خُنْتَ عهْدي
ولمْ تحفظْ هوايَ ولمْ تصُنّي
والقلبُ الذي يخْفقُ بالعشقِ، وهو المضغةُ الجسديّة المُتخصّصة في علاقاتِ الحبّ ونبضِ المشاعر، فهو إذنْ الأداةُ العاطفيّة التي تعلّقت بالمحبوبِ إلى درجة العمى، ولذا كانَ موقفُه تجاه القضيةِ النفيَ واستبعادَ حدوثِ الواقعة!
يُكذِّبُ فيك كلَّ الناس قلبي
وتسْمعُ فيك كلَّ الناس أُذْني
فالصراعُ الأساسيُّ هنا يكمنُ بين الأذنِ والقلب، هذا الصراعُ الذي تكتملُ ذروته الانفعالية بتحوّل المشهد الدرامي تجاه العضو الثالث، وأعْني عضو العقل الذي يتّخذُ -بصورةٍ أو بأخرى- وظيفة القاضي أو الحاكم بين طرفي الصّراع، فيتخذُ مكانَ الوسط بين الطرفين، فتسمو مكانته وقامته حتى يتحدثَ بلسانِ البطل:
ومَا أنا بالمُصدِّقِ فيكَ قولاً
ولكنّي شقِيتُ بِحُسْنِ ظَنّي
وهنا نلمحُ مكانَ الوسط من خلال تخصيصِ صدرِ البيتِ بالاصطفافِ مع الطرفِ الأوّلِ (القلب) ورأيه بعدمِ تصديقِ الشائعاتِ أو الأخبارِ التي تُروى بين الناس، بينما يُوحي عجزُ البيت بالاستدراكِ الاستثنائيِّ الذي يصطفُّ في نفسِ الوقتِ مع الطرف الثاني (الأذن) ورأيها بتصديق كل تلك الشائعات خصوصاً عندما يعترفُ البطل بابتلائه بحسنِ الظنِّ لدرجةِ السّذاجة التي عبّر الشاعر عنها بالشقاء!!.
ولوْ تساءَلْنا عن الإبداعيّةِ في هذه الصُّورة لوجدناها تختصُّ بتلك الحبكة الروائيّة الفنيّة الدقيقة التي صوّرها الشاعرُ داخل أبيات القصيدة بهذه البراعة لدرجةِ أنّها تنقلُ فوضى الحَواسِّ وصراعاتِ مشاعرِها المُتخاصمة إلى المتلقّي بصورةٍ مباشرة، فيتعاطفُ تلقائيّاً مع شخصيةِ البطلِ الحائرِ بين عراك حواسّه وصراعِ مشاعره، ولا سيّما أنّ الأمرَ يتعلّقُ بمحبوبه الذي يعتبرهُ قطعةً من ذاته قدْ تعلّق بها، وهام بحبّها فكيف يصلُ به الحالُ إلى الشكِّ بخيانتها:
أكادُ أشكُّ في نفْسي لأنّي
أكادُ أشكُّ فيك وأنتَ منّي
فالأنا التي تتعمّقُ في كلّ أبيات القصيدة من أوّلها لآخرها هي تعبيرٌ جليٌّ عن شخصيّة البطلِ الحائرةِ بين فكرتين، فكرة الخيانة التي تؤيدها الأذن أو عضو السمع، وفكرة الحب الأعمى التي تسيطرُ على عضوِ القلب، وهي الفكرةُ التي يُكرّرها الشاعر مباشرةً بعد كلّ خاطرةِ شكٍ:
وأنت مُنايَ أجْمعُها مشتْ بي
إليك خُطى الشبابِ المُطْمئنِّ
وهكذا فتستمرُّ الأنا الحائرةُ مسيطرةً على هيكل القصيدةِ متضمنةً كلّ تلك الصراعاتِ بدون أنْ تصلَ إلى نتيجةٍ حتميّةٍ أو إجابةٍ عن السؤال الأساسي، هل خانته حبيبتُه، أمْ لا؟، حتى يصلَ بنا المشهدُ الدراميُّ المثيرُ إلى الخاتمة أو البيت الأخير:
أجبْني إذْ سألتُك هلْ صحيحٌ
حديثُ الناسِ خُنْتَ؟ ألمْ تخنّي؟!.
وهي خاتمةٌ إبداعيّة، تُعطي فضاءً واسعاً لذهن المتلقِّي في تصوّر الحقيقةِ حول الشكِّ والخيانة، مع إعطاءِ الاحتمالِ الأكبر تجاه وقوع الحادثة التي تُؤيدها الأذن ويُصدِّقُها حديثُ الناس:
على أني أُغالطُ فيك سمْعِي
وتُبْصِرُ فيك غيرَ الشكِّ عيني
وللأمير عبدالله الفيصل قصيدةً أخرى شهيرةً لا تقلُّ ابداعاً بعنوان (مِنْ أجْلِ عينيك) وهي رائعتُه الوجدانيّة الأخرى التي تفيضُ بالأنا الهائمة بالعشقِ والغارقةِ في بحرِ الحب، وهنا يظهرُ تأثّر الشاعرُ بالمدرسة الرومانسيّة بصورةٍ كبيرةٍ، فالقصيدة عبارة عن خطابٍ وجدانيٍ ذاتيٍّ تُقدّمه الأنا العاشقة وتوجِّهُه للمحبوب، وفي هذا الخطاب يتفننُّ الشاعرُ باختزال الطرفِ الآخر داخل الضميرِ دون البوحِ باسمه أوتفاصيل جسده:
مِنْ أجْلِ عينيكَ، عشقتُ الهوى
بعد زمانٍ كنتُ فيه الخَلِي
وهذا الاختزالُ يدلُّ على أنّ صورة المحبوب مُتخيّلة في وجدان الشاعر أكثر مما هي واقعاً مُعاشاً، وتلك عادةٌ متداولةٌ عند شعراءِ الرومانسيّة في كلِّ الآدابِ العالمية، فتبدأُ القصيدةُ هنا بمعنىً تقليديٍّ متداولٍ ضمن فضاءِات الأدب العربي، وأعْني عندما يستهلُّ الشعراءُ قصائدَهم الغزلية بذكرِ العيونِ الساحرةِ التي يتحوّل سياقُها الدراميّ مِنْ مشهدِ الحبّ السُّكوني إلى انفعاليّة الحركة في مشاهدَ الحربِ التي تجري أحداثُها بين طرفي علاقة الحب، هذه الدراميّة التي طالما أقحمها الشعراءُ العربُ في سرديّتهم الغزليّة ضمن سياقيّة أحداث المعركة، أي الحربُ التي تدورُ رحاها بين الأنثى الضعيفة المتسلّحة بفتنةِ العيونِ التي تفتكُ بأشدّ الذكور قوةً وصلابة، كما يقول شوقي:
لمّا رنا، حدّثتني النفسُ قائلةً
يا ويحَ جنْبكَ بالسّهمِ المُصيبِ رُمي
هذه الدراميّة تتحولُ ضمن المشاهدِ التاليةِ من ميادين الحرب إلى أرْوقة القضاء والمحاكمة، وهذه الاستدعائيّة الثقافيّة تتكثفُ تلقائياً في صيرورة وفضاءِ الشعرِ العربي، فيقولُ مليحُ الأندلس ابن عبدربه القرطبي صاحبُ العقد الفريد:
أطُلابُ عذْلي ليسَ بي غيرُ شادِنٍ
بعينيهِ سِحْرٌ فاطلبوا عنْده عذْلي
أغارَ على قلْبي فلمّا أتيتُه
أُطالبُه فيه، أغارَ على عقْلي
فالغارةُ هنا منْ أنواعِ الحربِ وأساليبِ المعارك، ونتيجة الحرب هي معاكسة للعُرفِ والسّائد، فقد انتصرَ الضعفُ على القوّة، أو انتصرت الأنوثةُ بعيونها الجميلة على فروسيّة الذكورة، ولذا نجدُ المشهدّ الدراميَّ ينتقلُ بعدها كذلك من ساحات الوغى إلى فكرةِ القضاءِ عبر استدعاء ثنائيّة العدل / الظلم:
وإنْ حَكَمتْ جارتْ عليّ بحُكْمِها
ولكنّ ذاكَ الظلمُ أشْهَى منَ العَدْلِ
وتتكرّرُ هذه الاستِدْعَائيّة الثقافيّة في قصِيدة الأميرِ عبدالله الفيصل على نفسِ النحو، فنجدُ أنّ براءةَ العيونِ الجميلةِ وما تصْنعه في الذكورةِ المسالمةِ الخاليةِ، كما قالَ الشاعرُ القديم:
أتاني هَواها قبلَ أنْ أعرفَ الهَوى
فصادفَ قلباً خالياً فتمكّنا
ولوْ أردْنا أنْ نرصدَ هذه الحالة بيانياً، فسنرْسمُ مُنْحنىً جديداً من نقطة الصفر يتسمُ بالعلاقةِ الطرديّةِ التصاعديّةِ، حيث يُمثلُ المحورُ الأفقي س نظرات العيون، ويمثّلُ المحورُ العمودي ص خفقانَ القلب، فيبتدئ تصاعد منحنى العشقِ والهيام مع بدايةِ النظرةِ الساحرةِ صعوداً ليصلَ إلى مستوياتٍ أعلى من درجاتِ الحب، كمرحلةِ السّهر:
وأصْبحت ْعينيَ بعدَ الكَرى
تقُولُ للتسهيدِ لا ترْحلي
ليصلَ الشاعرُ تلقائياً بعدَ مشهدِ العُيونِ الفاتكةِ إلى مرحلةِ الاستدعائيّةِ الثقافيّةِ التقليديّةِ تجاهَ القضاءِ والمحكمةِ عبرَ ثنائيّتها العدل/الظلم، تماماً مثلما رأينا في مشهدِ الوصفِ الغزليِّ عندَ ابنَ عبدربه الأندلسي، ولذا نجدُ العاشقَ هنا يُعْلنُ استسلامه التام في المعركةِ لصالحِ سِهامِ العُيون:
هذا فُؤادي فامْتلكْ أمرهُ
فاظْلمْهُ إنْ أحْبَبْتَ أوْ فاعْدِلِ
كما نجدُ إبداعيّةَ الشاعرِ تتجَلّى في القدرةِ الفنيّةِ على إثراءِ النص بالجمعِ ببراعةٍ بينَ الثنائيّاتِ المُتضادةِ التي تعكسُ حالة الجدِّ والهزلِ بين الطرفين، مثلَ
الضحك والبكاء، أو الأنين ولحْنِ الغناء:
كمْ تضاحكتَ عندما كُنتُ أبكي
وتمنّيتَ أنْ يطولَ عَذابي
كمْ ظننتَ الأنينَ بين ظُلوعي
رجْعَ لحْنٍ من الأغاني العِذابِ
ولعلّ القارئَ الكريم قد لمحَ نوعاً بديعاً من أشكالِ الجناسِ في قافية البيتين (عَذابي/العِذَابِ)، ومن روائع الصُّور الفنيّة التي وظفها الشاعر ببراعة داخل القصيدة تلك التصويرات التي تنبثقُ من تأثره بوجدانيّات مدرسة أبولُّو التي اعتمدتْ على صُورِ البراءةِ الفطريّةِ المتمثّلةِ في (النور،الصبح،الطفل،السراب، الطيف) والتي وظّفها الشاعرُ في تصويرِ العلاقةِ بين طرفي الحب، أيْ بينَ العاشقِ الذكوريِّ الجادِّ والمحبوبِ الأنثويِّ الهازل:
ملأتَ لي دربَ الهَوَى بهْجَةً
كالنّورِ في وجْنةِ صُبْحٍ ندِي
وكنتَ إنْ أحْسَسَتَ بي شقوةً
تبْكي كطفْلٍ خائِفٍ مُجْهَدِ
وبعْدما أغْويتني لمْ أجدْ
إلّا سَراباً عَلِقَتْ بهِ يدي
رحم الله الأمير عبدالله الفيصل، ظاهرة شعريّة بديعة تستحقُّ الدراسة والبحث والتأمل، ولذا جاء هذا المقال إضاءةً نقديّةً في رائعتيه (ثورة الشك) و(مِنْ أجْلِ عينيك عشِقتُ الهوى).