د.حسن مشهور
عند تناول ذلك الحضور وتلك الإطلالة الأولى لأدب الأطفال في البلاد العربية، فسنجد أن ذلك قد كان متأخرا نسبياً، فالالتفات لأدب الأطفال واليافعين في البلاد العربية لم يتبلور سوى في أواخر القرن التاسع عشر من الألفية الماضية، وذلك بعد البدايات الأولى لظهور الترجمة ومن ثم خلال فترة شيوعها في عالمنا العربي.
ويمكن لنا رد ذلك التأخر في الظهور لهذا الجنس الأدبي المهم في تغذية وتشكيل عقل وفكر ووجدان جيل المستقبل، لإعراض الكثير من الأدباء عن الكتابة فيه جراء جملة من الأسباب التي يأتي على رأسها؛ إن الطفل لم يكن له في ذلك الوقت أولوية عند القائمين على شؤون التربية والثقافة في عالمنا العربي سواء في القرن الثامن عشر أو بداية القرن التاسع عشر بشكل عام. هذا إلى جانب إن العديد من الأدباء قد كانوا يملكون رؤية قاصرة فيما يتعلق بالكتابة لصغار السن من الجنسين، فالأديب قد كان ينظر للكتابة للأطفال بأنها عمل غير جاد، بل كان البعض ينظر إليها باعتبارها استهانة واستخفافاً وتضحية بالشهرة الأدبية. فالأديب الكبير، قد كان يعتقد في قرارة نفسه بأنه سيغدو أضحوكة أمام أقرانه إن كتب أنشودةً أو قصة للأطفال.
ومن هنا يمكن القول، إن جملة هذه الأسباب التي كانت سائدة -في كل العالم تقريبًا- فيما مضى، قد كانت من البواعث التي دفعت عددًا ممن قد يميل للكتابة في أدب الأطفال ويملك الموهبة لذلك، إلى الكتابة بأسماء مستعارة، فالأديب أو الشاعر- في العالم العربي آنذاك – قد كان يرى في موهبته بريقًا خاصًا يجعل من الصعوبة بمكان التضحية به عبر التوجه للكتابة للطفل.
ولذا فقد بدأ الالتفات إلى أدب الأطفال في عالمنا العربي بفعل الابتعاث الخارجي إلى فرنسا وبريطانيا وتأثر هؤلاء المبتعثين بالحركة الثقافية في أوروبا. فها هو رفاعة الطهطاوي بعد أن شاهد اهتمام الأوروبيين بهذا الفن الجديد، يخرج علينا بقصصه المترجمة، والتي منها «عقلة الأصبع»، وأيضاً «حكايات الأطفال»، هذا عدا تأثر أحمد شوقي بحكايات الشاعر الفرنسي لافونتين فكان أن تولد في الذهنية الفاعلة لشوقي رحمه الله، كتابة «شوقياته الصغيرة».
بيد أن الامتدادية الجغرافية الكبيرة -إلى حد ما- التي حققها أدب الأطفال وتنامي مكانة هذا الضرب من الفنون الكتابية، يعود الفضل فيه للأديب كامل الكيلاني، الذي تنوعت نتاجاته الكتابية للأطفال وصغار السن، لتشمل القصص والحكايات والأناشيد والفكاهة، إلى جانب بعض الأساطير والأدب المترجم والأدب الديني مما يتلاءم مع ذائقة الصغار واليافعين من أبناء الأوطان العربية.
إن هذا الجهد المتنامي والرامي لتحقيق وجودية مثلى لأدب الطفل الذي مثله الراحل كامل كيلاني، قد جعل السكوت (2009) يصفه ويصف نتاجه الكتابي بالقول إنه من أوائل الذين كتبوا قصص الأطفال في الأدب العربي الحديث. وله إنتاج غزير ومتميز في هذا المجال. وكتاباته تحفل بمهارات رفيعة في القص والصياغة فضلاً عن جودة الموضوعات.
حقيقةً، إن تلك الجهود الأولية والملموسة في مجال العناية بالكتابة للطفل التي دشنها شوقي والكيلاني عليهما رحمة الله، قد دفعت الأديب حامد القصبي لأن يهتم بهذا الحقل الجديد من الأدب، فكان أن عمد لترجمة العديد من قصص الأطفال من الأدب الإنجليزي، إلى جانب كتابة البعض الآخر منها.
والتي منها مُؤَلَفَهُ الأول الذي حمل عنوان «التربية بالقصص لمطالعات المدرسة والمنزل». ويشكر للقصبي اهتمامه هذا الذي كان دافعه تعزيز التربية الخيّرة لأبناء العالم العربي وتعميق الفضائل فيهم، فالرجل رغم إنه قد كان صاحب حرفة وتخصص بعيدًا عن الحقل الأدبي، لكن ميوله الأدبية ورغبته في تقديم عمل جيد يسهم في تربية أبناء وشباب المجتمع العربي، قد كان هو الباعث لصنيعه الجيد هذا، وقد وصف تجربته هذه بالقول: «لم أتردد أن أنشر بين الناس كتابي هذا عندما تبينت أن الحاجة ماسة إليه، وذلك لأني في مطالعاتي للكتب الإنجليزية عثرت على عدد كبير من القصص التهذيبية التي تتضمن الحكمة والموعظة الحسنة في أسلوب شائق وعبارات خلابة، يقصد بها إلى تربية للناشئين تربيةً خلقيةً قويمةً. فعولت على ترجمتها، لأعطي فيها صورة واضحة لطالبات مدارسنا وطلابها الذين يفيدهم هذا النوع من التهذيب، خصوصًا أن كتب المطالعة العربية التي تتناولها الأيدي الآن تخلو من كثير من أمثال هذه القصص. وقد توخيت في الترجمة الاحتفاظ بروح القصة، غير مقيد بالالتزامات الأخرى لتأخذ القصة صبغتها العربية الخالصة التي تلائم الذوق السليم». ويمكن القول بكل تجرد، إن النتاجات الكتابية التي رفد بها هؤلاء المكتبة العربية وأسست لما عرف لاحقاً بأدب الطفل العربي، قد جعل لمصر السبق في الاهتمام بالطفل العربي والعمل على تثقيفه والتأصيل لأدبه عبر تلك النتاجات المطبوعة التي أثروا بها المكتبة العربية.
لاحقاً، شهدت البلدان العربية انطلاقة ذات المد المتعالي من الاهتمام بأدب الطفل في مصر، رفد ذلك جملة من الأدباء العرب في أرض العراق وبلاد الشام ولبنان من خلال مؤلفاتهم الموجهة للأطفال واليافعين والتي يمكن وصفها بالعميقة والغزيرة في محتواها التربوي والامتاعي، منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ زكريا تامر وعادل أبوشنب وسليم بركات من بلاد الشام الذين أثروا المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات النثرية والشعرية الموجهة للأطفال، إلى جانب الجهد النوعي للأديب السوري سليمان العيسى، الذي صدرت له مجموعات شعرية وقصصية تعنى بالكتابة للطفل، منها على سبيل المثال؛ «ديوان الأطفال»، وهو عبارة عن ديوان يتألف من خمسة وثلاثين نشيدًا. إلى جانب مسرحياته الشعرية التي كان من أبرزها مسرحية المستقبل ومسرحية النهر. إلى جانب الجهد التأليفي البارز للأديب كار معلوف الذي وضع اللبنات الأولى لأدب الطفل في بلاد لبنان.
ومع التزايد في الاهتمام بهذا الجنس الأدبي الجديد الذي بدأ آنذاك يحظى بمتابعة وقراءة واهتمام صغار السن من أبناء الجيل من الجنسين، فقد شهد الفاتح من ستينات القرن الميلادي المنصرم، حركة نشطة من الكتابة والطباعة والتأليف التي عنت بأدب الطفل في عالمنا العربي، وجسدته تلك المطبوعات التي أصدرتها «دار الفتى العربي»، إذ قد عملت دار النشر هذه على استقطاب أولئك الكتاب الذين لديهم اهتمام تأليفي بأدب الطفل وعملت على طباعة مؤلفاتهم الأدبية، نذكر منهم، الراحل زكريا تامر، الذي كتب قرابة المائة قصة، اتسمت في تشكيلها بالثراء اللغوي وعمق المعالجة التربوية وجودة البناء الفني.
لاحقا، ومع وصولنا لمنتصف الستينات؛ فقد شهدت الصحافة العربية توجهًا جديدًا تجاوز عملية التأليف الكتابي التقليدي المعروف، ليتقولب في شاكلة إصدار المجلات الأسبوعي منها والشهري، التي تتناول مختلف اهتمامات الطفل من قصة وألغاز وشبكات كلمات متقاطعة ونكات فكاهية.
من ذلك مجلة «سوبرمان»، التي ظهرت في لبنان في عام 1964م، ومجلة «الوطواط «، التي تلتها في الصدور بعامين، إلى جانب مجلة «طرزان» التي صدر عددها الأول عام 1967م، ومجلة «أسامة» التي كانت تصدر من سوريا، إلى جانب مجلة «العربي الصغير».
وما أن حل عقد السبعينات من القرن الماضي حتى توسعت عملية إصدار المجلات الأدبية التي حققت حضوراً واهتماماً ومتابعة من القراء من صغار السن، لتطل علينا مجلة «لولو الصغيرة» من لبنان التي صدرت عام 1971م، ومجلة «طارق» التي تلتها بعام في الصدور وكانت كذلك تصدر من لبنان.
أما بالنسبة لدول خليجنا العربي، فقد كانت حضورية أدب الأطفال في الواقعية الأدبية الخليجية متأخرةً قليلاً عن جاراتها من الدول العربية. فلعقود كانت حكايات الجدات والأمهات هي الأكثر شيوعاً في المجتمعات الخليجية. فقد كان صغار السن يلتفون حول الجدة يطالبونها في أغلب الليالي بأن تسرد لهم قصص تختلط فيها أخبار الإنس مع الجن، وأخبار الإنسان مع الوحش الذي يخاطب الإنسان بلسانه. إذ كان الأطفال في بعض مناطق دول الخليج كالكويت والإمارات والبحرين يطالبون الجدة الكبرى أو الأخت أو الأم بأن تقول لهم «حكاية» يجدون فيها من التسلية والترفيه والتشويق الشيء الكثير.
وفي محاولتي لتحديد نقطة الانطلاق لهذا الضرب من الكتابة في المجتمع الخليجي، فقد وجدت صعوبة نوعية في تأطير ذلك، إلا إني قد وجدت العديد من المشتغلين بالدرس النقدي يميلون للقول بأن ظهور أدب الأطفال في الساحة الأدبية الخليجية، قد اتسم بالتفاوت الزمني بين كل دولة خليجية وأخرى جراء تفاوت الظروف والإمكانات المتاحة آنذاك. فلو يممنا وجوهنا شطر دولة الكويت -على سبيل المثال- فسنجد بأن ظهور مجلة «سعد» في عام 1969م، قد كان يمثل منعطفاً محورياً في حضورية أدب الأطفال في الواقعية الأدبية الكويتية. فهذه المجلة قد حوت العديد من القصص والأناشيد التي كانت تكتب بشكل جيد لتحوي جانب التربية والتثقيف إلى جانب الإمتاع الفني.
أما في مملكة البحرين فقد كان هناك اهتمام نوعي من بعض الأدباء في الاهتمام بشؤون الطفل واحتياجاته الأدبية والتثقيفية، يأتي على رأسهم الأديب الكبير عبد القادر عقيل والأديبة حمدة خميس، إلى جانب الأديبة فوزية رشيد وغيرهم من الأدباء الذين وطن لديهم أن قضية تثقيف الطفل البحريني والتوجه إليه فكرياً وأدبياً هو أمر من الأهمية بمكان.
فهؤلاء الأدباء البحرينيون قد كانوا ينظرون إلى الكتابة للأطفال بصفتها ضرورةً من ضرورات المجتمع وتطوره ومكانته بين المجتمعات الأخرى. وهذا التوجه قد أكدته الكاتبة حمدة خميس في مقولة لها عن أدب الأطفال مفادها إنه لو تراجع كثير من الكتاب عن الكتابة للأطفال وأصبحت الفكرة مجرد حماس، فإن أدب الأطفال سيفرض نفسه عند أكثر الأمم.
هذا إلى جانب أن أدب الطفل، قد أدى لخلق واقع أدبيٍ جاد يعنى بالطفولة في دول الخليج. من ذلك مجلة «ماجد» التي صدرت في عام 1979م في الإمارات العربية المتحدة. بالإضافة لمجلة «العربي الصغير»، التي صدرت في منتصف الثمانينات وتحديداً في عام 1986م في دولة الكويت.
أما في العربية السعودية الحبيبة على قلوبنا، فإن إرساء الدعامة الأولى لأدب الأطفال واليافعين قد تمثل من خلال «وسيط» الصحافة المتخصصة، حين صدر العدد الأول من مجلة «الروضة» الموجهة للأطفال صباح الخميس 14 / 3 / 1379هـ، بإشراف الشاعر السعودي الكبير طاهر زمخشري - رحمه الله - الذي تولى رئاسة تحريرها، وتحمل نفقات الطباعة والإصدار والتسويق، وقد جاء فيها أنها «مجلة ثقافية مصورة تصدر تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز وزير المعارف»، وقتذاك رحمه الله الذي أصبح الملك الخامس لمملكتنا السعودية الكريمة الغالية على قلوبنا جميعًا.
ويشير الشنطي (2009) إلى أن أدب الأطفال في الداخل السعودي قد حظي بنصيب وافر من الاهتمام، خاصةً في العقود الأربعة الأخيرة، ويلمح إلى أن هناك العديد من الأدباء الذين اهتموا بالأطفال وأدبهم، والذين يأتي على رأسهم، عزيز ضياء وعلوي الصافي، وخالد عبد الله، وإسحاق يعقوب.
ويَرُد الباحث اليوسف (2019) السر في هذه العناية بأدب الطفل، لكون العالم ينظر إليه باعتباره سمة حضارية، فالاهتمام به كأدب والعناية به تعني التعامل مع علم المستقبل والتخـطيط له، وفق ما قاله العرب؛ بأننا نربيهم لزمان غير زماننا، لذلك كان اهتمام منطقة الخليج العربي ومنها المملكة العربية السعودية بهذا الأدب من منطلق الأصالة، والمعاصرة، والمستقبلية.