خالد محمد الدوس
ولد عالم الاجتماع الألماني الفيلسوف (أكسل هونيت) في مدينة إيسن الألمانية عام 1949، ودرس البكالوريوس في جامعة بون العريقة عام 1969 ثم واصل تعليمه العالي في جامعة بوخوم في الفلسفة - علم الاجتماع والأدب الألماني ونال شهادة الدكتوراه وكانت أطروحته بعنوان: (فوكو والنظرية النقدية) ونشرت لاحقا في كتاب بعنوان: «نقد السلطة».
عين بعد حصوله على شهادة الدكتوراه أستاذا مساعدا في جامعة جوته في فرانكفورت، وعمل في الصروح الأكاديمية أكثر من ثلاثة عقود زمنية، وقد تأثر في منهجه العلمي والفكري في بداية حياته برواد الجيل الأول «لمدرسة فرانكفورت النقدية».. وهي بالمناسبة مدرسة فكرية ونظرية اجتماعية نقدية تأسست في عشرينيات القرن العشرين في ألمانيا وارتبطت بمعهد البحوث والاجتماعية، ومن روادها: ماكس دوركهايمر، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركوزه، كما تأثر في رواد الجيل الثاني لنفس المدرسة ومنهم.. ألبرت فلمر، وكارل اوتوآيل، وهابرماس ولذلك عمل «هونيت» في مشروعه العلمي على بناء نظرية نقدية تواكب التحولات التاريخية والفكرية والسياسية التي عرفها العالم المعاصر، وعمل على اخضاع هذه النظرية للتعديل بعد أن انفتح على أعمال كبار الفلسفة (هيغل - ماركس - هيدغر - سارتر- ديوي) وعلماء الاجتماع (بورديو، بيير زيمل - جورج هربرت) وسعى على ضوء ذلك لبناء فلسفة جديدة تقوم على الاعتراف والتي هدفت إلى تأسيس مقاربة جديدة داخل التيار الفلسفي النقدي لمدرسة فرانكفورت العريقة.
قّدم هذا العالم الفذ.. أبرز بحوثه ومؤلفاته التي أهلته للحصول على الأستاذية عام 1990، ورشحته لتولي إدارة معهد البحوث الاجتماعية المخضرم في جامعة جوته سنوات عدة، وكانت بحوثه في الفلسفة الاجتماعية وتتمحور الكثير من اعماله حول «نظرية الاعتراف»، (بمعنى التقبل، الإقرار بقيمة ما وتقديرها) التي طورها ضمن مؤلفاته المتميزة، كما ركزت أبحاثه على بإشكالية التشيئ في المجتمعات المعاصرة فقد تناولها في كتابه «التشيئ» أعاد صياغة هذا المصطلح في ضوء نظرية الاعتراف، فقد أرجع «أكسل هونيت» كل أشكال التشيئ إلى ما سماها باثولوجيا الذاتية المشتركة وليس لخصائص بنيوية في الأنظمة الاجتماعية..!!، كما نظّر الأب الروحي للنظرية الصراعية العالم الألماني الشهير كارل ماركس في هذا السياق، وأيضاً للجيل الثاني من المدرسة النقدية جورج لوكاتش وهابرماس، فقد سعى العالم الألماني « أكسل هونيت» في كتابه «باثولوجيا العقل» إلى تحديث «النظرية النقدية» المجتمعية التي وضعتها فيما مضى»مدرسة فرانكفورت» وتطويرها باتجاه أخلاقي الطابع.
كما ألف العديد من المؤلفات الغنية التي لاتزال تشكل مرجعا مهما في الدراسات الاجتماعية والفلسفية في أوروبا وأهمها: كتاب الصراع من أجل الاعتراف - القواعد الأخلاقية، وكتاب العمل الاجتماعي وطبيعة الإنسان، وكتاب أمراض العقل، وكتاب حق الحرية.
ينتمي «هونيت» من حيث الفكر الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت النقدية إلى جيلها الثالث ويمثل (الوريث الشرعي) لها..!، انخرطت مجموع أبحاثه ضمن تقليد فلسفي اهتم بالخلالات المرضية المعرقلة لنجاح الحياة الاجتماعية بالمجتمعات الغربية، وهذا وتتميز فلسفته عن الفلسفات الأخرى بطابع تفكيرها في البحث عن الكيفية التي من خلالها يتم تجاوز مجموع التشوهات المرضية التي أعاقت إرساء حياة اجتماعية ناجحة أو جيدة للأفراد، شكلت «نظرية الصراع من أجل الاعتراف» الشغل الشاغل للفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني «أكسل هونيت»، حتى بات يعرف بها وهي تعرف به، فهي الركيزة والدعامة الأساسية التي شيد عليها مشروعه الفلسفي الطموح، فقد كان بمثابة حجر الزاوية الذي أسس على منواله مشروعه الفكري النابع من صميم القضايا الاجتماعية والسياسية الحارقة بالمجتمعات الغربية الحديثة وما تبعها من قيم اجتماعية ونفسية.
والأكيد أن مفهوم الاعتراف في تصور «هوينت» يعد مقاربة نقدية لأجل إرساء حوار نقدي حول إرث النظرية النقدية للمدرسة على ضوء مناقشته لأعمال أبرز روادها وهم كل من ماكس هوركهايمر وأدرنو تيودور، ويورغن هابرماس الذي يعد أستاذه المباشر حيث أعاد النظر في الأسس التي تقوم عليها النظرية النقدية وقد انتقد طابعها الاختزالي الاقتصادي الذي تجلى من خلال الإفلاس الاجتماعي وعدم القدرة على الأخذ بعين الاعتبار للجوانب الاجتماعية ولخصوصيتها النفسية ليراهن من جديد على أهمية المسألة الأخلاقية والسياسية التي عمقتها الإحراجات الإنسانية الراهنة التي يغذيها جشع الإنسانية المعاصرة وما اكتنفها من ظلم وقهر وقمع والذي لايزال نسقه في تزايد عبر العالم.وعلى الرغم من المنزلة العملية التي اكتسبتها نظرية الاعتراف والأهمية التي أولاها لها صاحبها باعتبارها شكلت ولا تزال أبلغ تعبير عن النظرية الاجتماعية وأنضج أنموذج فكري لها وهو النضج الذي مكنها من استيعاب جملة من القضايا والتحديات والتحولات التي طرأت على المجتمعات المعاصرة بشكل لم تعهده من قبل. إلا أن هونيت لم يتوقف عند حدود هذه النظرية واتجه نحو التفاعل مع الاهتمامات المتزايدة عبر العالم «بنظرية العدالة» في بعدها الكوني ومراهنتها على المطالبة بالحرية الفعلية ضمن أفق الفضاء العمومي للأفراد والجماعات، وهذا ما ظهر صداه في كتابه «الحق في الحرية» 2011 حيث سعى هونيت في هذا المؤلف إلى تحقيق قفزات نوعية في مساره الفلسفي المتصل بنظرية الاعتراف وذلك من خلال محاولته تطويرها وجعلها قابلة لاستيعاب النقاش القائم حول نظرية العدالة، وذلك من خلال تركيزه على مفهوم الحرية في ثلاث نقاط أساسية (الحرية القانونية - الحرية الاجتماعية - والحرية الأخلاقية) حاول خلالها معالجة هذا المفهوم بالمجتمعات المعاصرة منطلقا من تمهيد خصصه لتحليل نظرية العدالة بوصفها مدخلا لقراءة المجتمع.
ولاشك أن العالم الاجتماعي الفيلسوف «أكسل هونيت» يعد من بين أهم المفكرين المعاصرين الذين أخذوا قضية الفرد المنبوذ اجتماعيا ومعاناته على محمل الجد من خلال ما قدمه من حلول تنأى به عن واقع الضحالة والانحطاط ضمن أفق انساني يعج بالعديد من الكتابات التي تناولت هذه المسألة ولكن فلسفته الاجتماعية تميزت عنها من خلال اهتمامها بالجوانب النفسية والأخلاقية ثم الجوانب الاجتماعية والسياسية لهذا الطرح الفكري داخل حضارة مريضة على حد زعمه..!!