د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
تمثِّلُ دراسة نصوص التراث (شعرًا ونثرًا) بمناهج نقدية غربيَّةٍ انزياحًا إبستمولوجيًّا خطيرًا؛ إذ إنَّ الأمر ليس إعمالًا لأدوات تحليلية غربية، بل هو في جوهره إخضاع نصوص التراث لمقولات لم تنبت في تربتها المعرفية، ولم تنشأ مرعيَّةٍ في السياق الحضاري لنصوص التراث العربي.
ومهما يكن من تبرير أو أمرٍ؛ فإنَّ في ذي المسالكِ انتهاكًا للخصوصية الإبستمولوجية التي تجب رعايتها عند مقاربة كل نظام معرفيٍّ مستقلٍّ بحدوده ومفاهيمه ومسلّماته، ولا ننسى أنَّ الشعر عند العرب علمٌ قبل أنْ يكون فنًّا يختلفُ فيه فلاسفة روما أيكون الفنُّ فنًّا لأنَّهُ ممتع؟! أو هل نطلق اسم الفنِّ على ما حمل لنا فائدة؟!
ولعلَّ القول بأنَّ كثيرًا من الأعمال التي تتناول التراث العربي في ضوء المناهج الغربية تُشبه -من حيث الجوهر التأويلي- الأنثروبومورفية، أي أنسنةَ غير الإنسان؛ فإذا كان الإنسان يُسقِط خصائصه على الكائنات والطبيعة في فهمه للعالم فيُضحِكُ الليل، ويبقي الدقائق جالسةً على قارعةِ في (انتظار غودو)، فالمناهجُ النقديّة الغربيةُ -بعد غرس مفاتيح القول الفلسفي في ذهن الباحث- تُسقِطُ معاييرها على التراث العربي لتُعيدَه إلينا على صورتها، وهذا ليس أنثروبومورفية تؤنْسِنُ مفاهيم الوجود التي هي في التراث العربي تلك الأشعارُ والأخبار التي حفَّتْ بها أحلام (تزن الجبال رزانةً)، بل هو أَغْرَبَةُ تلك الأشعار والمرصوفات الكلاميَّة، أي تحويلها إلى ما يشبه الإنسان الغربي في رؤيته ومعاييره ووعيه الجمالي والمعرفي.
ومن هنا قد يصحُّ وصف هذه التوجهات بأنها تقودُ إلى نوعٍ من الاستلاب التأويلي، فتُسلَب النصوصُ حقَّها في أن تُفهَم ضمن أفقها الخاص، ويُنتزع صوتها لتتكلّم بلسان غيرها.
وقد تمادى هذا المنحى حتى أوهم بعض الدارسين بأنّ التداخل بين الحقول ضرورةٌ معرفية، بل زعموا أنه انزياحٌ إبداعيٌّ في القراءة العلمية، وما هو في الحقيقة إلا انزياحٌ إبستمولوجيٌّ يلغي حدود القول لتتكسَّرَ الحدود بين المناهج، ويدفع إلى الوهم بأنّ كل بيضاءَ شحمة، وأنَّ كلَّ مغايرةٍ ومباعدةٍ أو مشاجرةٍ ومواشجة دليلُ عمقٍ، وهو في تلك اللحظة من الفهم مغالطةٌ تقودُ إلى أَغْرَبَةِ التراث وإفراغه من منطقه الذي تأسست عليه قضاياه، وارتفعت أعلامُه، وبانت معالمه.
** **
- جامعة الحدود الشمالية