أ.د.صالح معيض الغامدي
كتبت قبل مدة تغريدة قصيرة عن إشكالة النهايات في السيرة الذاتية قلت فيها « ربما يكون من أصعب الأسئلة التي يمكن أن تواجه كاتب السيرة الذاتية السؤلان التاليان: متى ينبغي له أن ينهي سيرته الذاتية؟ وكيف ينهيها؟!».
وسأحاول في هذا المقال الإجابة أو على الأقل اقتراح بعض الإجابات المحتملة على هذين السؤالين.
ففي البداية ينبغي أن نشير إلى أن كتابة السيرة الذاتية لا تعني حقيقة كتابة ماض ولى وانتهى لكاتبها فقط، بل إن هذه الكتابة الحاضرة تسهم في تشكيل حياة كاتبها أثناء الكتابة بدرجات متفاوتة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في مناسبات عديدة. ولهذا السبب يصبح إنهاء السيرة الذاتية أمرا شاقا وصعبا، فكاتب السيرة الذاتية ما زال حيا وربما يتراجع عن بعض المواقف والرؤى وربما يشعر أن حياته ما زالت مليئة بالأحداث والتجارب الثرية، فيخشى أن يضع نهاية محددة لسيرته الذاتية، وبذلك يكون كمن يضع المسمار الأخير في نعشه كما يقال، ولهذا السبب ينشأ التردد والحيرة حول وضع النهايات للسير الذاتية.
والنهايات في السيرة الذاتية وثيقة الصلة بالدروس والمعاني والحكم التي يود الكاتب أن يودعها في سيرته عادة ليطلع عليها القراء لأنها آخر ما تقع عليها أعينهم. وقد تكون إشكالية التردد في كتابة نهايات السيرة الذاتية مرتبطة بكون كاتبها ما زال لم يستخلص من تجاربه الحياتية معنى واضحا أو معاني واضحة لحياته التي عاشها كما ينبغي، ولذلك يكون وضع نهاية محددة لسيرته أمرا بالغ الصعوبة.
وعادة ما تكون العلاقة بين الذات الكاتبة والذات المكتوبة في السيرة الذاتية علاقة مزدوجة ومرتبكة، فالذات الكاتبة تحاول جاهدة السيطرة على الذات المكتوبة وفهمها فهما يؤطرها ويمكنها من وضع نهاية جيدة وواضحة ومقنعة للسيرة الذاتية، بينما تكون الذات المكتوبة في حالة تمرد على محاولة الذات الكاتبة السيطرة عليها وإكراهها على نهاية محددة، وبذلك تجعل الذات المكتوبة كل نهاية تقترحها الذات الكاتبة مجرد احتمال واحد من احتمالات متعددة.
وهناك عدة احتمالات مقترحة لتوقيت وضع نهاية للسيرة الذاتية، قد يكون بعضها مطبقا فعلا وبعضها الآخر مجرد احتمالات نظرية ربما لم تجرب بعد.
فأول احتمال هو الذي اقترحته الأستاذة هند آل بدر في تعليقها على تغريدتي وهو أن ينهي الكاتب سيرته الذاتية « عندما لا يكون له قدرة على الإضافة أو الزيادة، فهنا يمكنه التوقف». وأعتقد أن هذا معيار جيد لإنهاء السيرة في بعض الأحيان.
أما الاحتمال الثاني فهو أن ينهي الكاتب سيرته الذاتية عند نهاية مرحلة عمرية أو عملية معينة، فيمكنه التوقف بعد مرحلة الطفولة إن كانت سيرته خاصة بسرد مرحلة الطفولة، أو بعد مرحلة التقاعد من العمل، أو عند الشفاء من المرض إن كانت سيرة ذاتية مرضية، أو بعد الخروج من أزمة وجودية أو روحية أو نفسية، أو بعد تحقيق حلم حياتي مهم طالما نشده في حياته، أو يمكن التوقف عند مرحلة مفصلية من حياته، وبخاصة إن أراد أن يكتب جزءا ثانيا من سيرته لاحقا .. وغيرها من التوقيتات المبررة للكاتب أولا، ولقرائه ثانيا.
وقد يتوقف بعض كتاب السيرة الذاتية ببساطة عند مرحلة معينة يعتقد أنه قد حقق عندها ما يرغب في تحقيقية من هذه الحياة؛ معنويا كان أم فكريا أم فلسفيا أم ماديا.
أما عن الكيفية التي ينبغي أو يمكن أن ينهي بها الكاتب سيرته الذاتية، فهناك خيارات عديدة؛ منها أن يجعل نهايتها نهاية دائرية فيحيل في آخر سيرته الى أولها مذكرا قراءه بما وعدهم بتحقيقه في بدايتها، وما انتهى إليه بعد كتابتها.
ومن النهايات المحتملة النهاية المفتوحة وهي النهاية التي يقود فيها الكاتب القراء إلى التفكير في طرق عديدة لرسم النهاية التي ترضيهم بناء على ما اطلعوا عليه من أحداث حياة الكاتب وتجاربها.
وقد ينهيها كاتبها باختيار عبارات لها دلالات رمزية مضمونية مهمة يتفاعل معها القراء، مثل « وقد أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت على الكلام المباح»، ويكون ذاك متى ما يشعر الكاتب بأن هذا هو كل ما يستطيع البوح به مثلا.
وقد توضع النهابة في بداية السيرة الذاتية إن أراد مزيدا من التشويق، كأن يجعل الفصل الأول من السيرة عن نهاية خدمته الوظيفية مثلا.
وينبغي أن أنهي هذا المقال بالإشارة إلى أن مفهوم النهايات في السير الذاتية يختلف من كاتب لأخر، فبعضهم يرى أن نهاية السيرة الذاتية هو انتهاء الأحداث التي قرر الكاتب سردها، وبعضهم يرى أن النهاية ينبغي أن تكون تعبيرا عن الموقف الوجودي أو الفلسفي الكلي للكاتب، وبعضهم يرى أن النهاية ينبغي أن تكون تلخيصا لمعني أو لمعاني الحياة التي عاشها الكاتب وجعلت من حياته تجربة حياتية ثرية جميلة (أو ربما غير جميلة) وملهمة دفعته إلى سردها في سيرته الذاتية…إلخ.