عايض بن خالد المطيري
ليست قصة «سكرية المذنب الحمراء» مجرد طرفة زراعية أو حكاية يتناقلها أهل النخيل، بل هي نموذج إداري متكامل يصلح أن يُدرّس في كليات الإدارة والسياسة. هذه النخلة التي لا تعطي ثمرها إلا في أرضها الأم، تحوّلت على يد أمير منطقة القصيم، الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود، إلى درس بليغ في صناعة القرار، ومرآة لفلسفة القيادة التي تقوم على التجربة المباشرة والبحث عن الحقيقة بعيدًا عن الظنون والافتراضات.
القصة بدأت كما يرويها سمو الأمير حين رغب والد سموه أن يرى نخيل «السكرية الحمراء» في مزرعته بالرياض بعدما أعجب بجودتها في المذنب. أُرسلت الفسائل، لكن النتيجة جاءت مخيبة للتوقعات النخلة لم تُثمر كما يجب. هنا يختلف القادة عن بعضهم؛ فالبعض يكتفي بتوجيه اللوم إلى البائع، وآخرون يرفعون الراية البيضاء بحجة أن النخلة لا تعيش إلا في أرضها وبيئتها.
غير أن الأمير تعامل مع الموقف بعقلية الباحث، لا بعقلية المشتكي. لم يفتش عن كبش فداء، ولم يركن إلى تفسيرات جاهزة، بل باشر وضع الحلول من خلال نقل التربة من المذنب إلى الرياض، وأعاد التجربة بيديه. فجاءت النتيجة مذهلة الثمرة أعطت نفس الجودة والطعم. السر لم يكن في الفسيلة، بل في البيئة.
وهنا المفارقة العجيبة كم من مسؤول يلوم «الفسيلة» بينما العيب في «التربة»؟ وكم من مشاريع تنموية تُدفن حيّة لا لقصور في الفكرة، بل لأنها وُضعت في بيئة لا تحتملها؟ الفرق بين من يكتفي بالشكوى ومن يجرؤ على التجريب، هو الفارق بين إدارة تستهلك الأعذار وإدارة تصنع الإنجاز.
هذا المشهد البسيط يعكس فلسفة قيادية جديرة بالتأمل. الأمير الذي جمع بين التكوين الأكاديمي في العلوم السياسية والإدارة، وبين خبرته الميدانية في قيادة إمارة منطقة القصيم، برهن على أن القيادة ليست شعارات تكتب على الورق، بل قدرة على النزول إلى التفاصيل واختبار الفرضيات، وهو ما يفسّر كيف استطاعت القصيم أن تحجز موقعًا متقدمًا بين إمارات المناطق في تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، لأنها تُدار بمنطق البرهان لا بمنطق التبرير.
والأجمل أن التجربة تكشف عن قاعدة أوسع أن لكل منطقة بصمتها، ولكل محافظة هويتها، ولكل مشروع بيئته التي تناسبه. النجاح لا يتحقق باستنساخ التجارب، بل بفهم الخصوصيات وتوظيفها. تمامًا كما لا يمكن إقناع النخلة أن تثمر خارج تربتها، لا يمكن لأي مشروع أن ينجح إذا لم يجد بيئته الإدارية والفكرية الملائمة.
إن «سكرية المذنب» لم تعد مجرد ثمرة تُزيّن موائد التمر، بل تحوّلت إلى رمز إداري يقول لا تُصدّر النجاح في صناديق مغلقة، بل ازرعه في أرضه واسقه برؤية صادقة. فالقيادة الواعية لا تتخفّى خلف الظروف، ولا تُلقي اللوم على الآخرين، بل تملك شجاعة التجريب وقدرة إعادة المحاولة. ومن لا يتعلم من النخلة هذه البديهة البسيطة، سيظل يزرع في غير أرضه، وينتظر حصادًا لن يأتي.
باختصار تؤكد قصة «سكرية المذنب الحمراء» أن عند أمير القصيم الخبر اليقين، وأن التميز ليس صدفةً ولا سلعةً قابلة للشحن، بل ثمرة بيئة مُهيأة بعناية، وجهد قائد يترجم رؤيته إلى واقع ملموس. هنا بالذات يكمن جوهر القيادة الحقيقية، التي تصنع المستقبل وتغرس في العقول قبل الأرض معنى التميز الأصيل.