م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - هل التحول السياسي هو الذي يسبق التنوير، أم أن التنوير هو الذي يهيئ للتحول السياسي؟ في أوروبا التحول السياسي حدث بسبب التنوير الذي سبقه، فكان مُنْتَظَراً في العالم العربي أن تنطلق قاطرة التنوير ليتلوها التحول السياسي.. لكن الذي حصل أن التحولات السياسية الكبرى التي حصلت في دول العالم العربي كانت بسبب الانقلابات العسكرية التي قادها ضباط بلا خلفية ولا خبرات سياسية، فقط قوة عنجهية أدارت البلاد وكأنها تدير ثكنة عسكرية..
لهذا اتجهت هذه الدول اتجاهات مختلفة تماماً بعيداً عن التنوير، واتخذت من الأفكار الآيديولوجية المغلقة وسيلة للحكم السياسي الشمولي القمعي الذي خنق مجتمعاتها وأدخلها في متاهات شيوعية واشتراكية وبعثية وأصوليات دينية مذهبية مغرقة، كل ذلك تحت حكم عسكري عاجز إدارياً معاق فكرياً فسحق مجتمعاتها وجعلها تعود للوراء قروناً.
2 - لإجابة سؤال أيهما يسبق الآخر التنوير أم السياسة، نحن أمام إشكالية: هل التجارب يمكن أن تُسْتنسخ أم لا، وأمام معضلة الحكومات العسكرية الشمولية الديماغوجية القمعية، وأمام الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه المواطن العربي وأظهر حاجته إلى لقمة العيش أكثر من المشاركة السياسية، وأمام ضعف المُواطَنة التي تُغَلِّب الولاءات الصغيرة كالمذهبية والقبلية أمام الوطنية، وأمام صعود التيارات الآيديولوجية التي تُكَفِّر وتحتقر الآخر المختلف.. كل ذلك جعل من سؤال «أيهما يجب أن يسبق الآخر» سؤالاً يبدو تافهاً لا يستحق النظر فيه ناهيك عن البحث عن إجابته.
3 - سؤال أيهما يأتي أولاً التنوير أم التحول السياسي يشبه تماماً سؤال أيهما أتى أولاً البيضة أم الدجاجة؟ دعاة (التنوير أولاً) يرون أن المجتمع هو العقبة الكبرى.. فهو مذهبي طائفي ثقافته قاسية حَدِّية، يعاني من مشاكل محورية في حياته تمس عيشه وأمنه ويواجه انسداد الأفق المأمول لحياته وحياة أبنائه.. أما دعاة (التحول السياسي أولاً) فيرون أن المشاكل الحياتية التي يعاني منها أفراد المجتمع سببها السياسة ذاتها، فلو كانت سليمة صحيحة لعاش الناس في رفاه وأمن، وأمكن حينها تنوير المجتمع، أما السعي لتنويره وهو يعاني في أساسيات معيشته فهذا ادعاء واهم، بل هي دعوة حق يراد بها باطل.
4 - الحقيقة أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وبالتالي فإن الكثير من العادات والتقاليد والمعتقدات التي أُلصقت بالدين مثلاً ليس لها أساس وهي معيقة.. وأن مجتمعاتنا وقعت فريسة لتأويلات متطرفة، كانت مقبولة أو لنقل مفهومة في حينها لكن وبعد مرور أكثر من ألف عام عليها فهي تأويلات لم تعد مقبولة بل معيقة ويجب إعادة النظر فيها وفتح باب الاجتهاد والتفكير بخصوصها من جديد، وهذا قرار سياسي أولاً.
5 - أمام هذا السؤال: أين الصواب الذي يخدم تنمية المجتمع، ويحقق معادلة التنمية العظيمة في أن يكون لدينا «مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح».. هل يمكن تحقيق تلك المعادلة دون معارك وصدامات تأخذ من عمر التنمية سنوات إن لم تَعُد بنا إلى الوراء؟ هل يمكن الوصول للتنوير والتحول السياسي دون أن ندفع الثمن باهظاً كما حصل للمجتمعات الأوروبية؟ وكيف نحمي أنفسنا من السقوط في حفرة التشدد والعصبية المذهبية أو القبلية ومحاربة الحداثة والتقدم والاستجابة لدعاة العودة إلى الوراء؟