جانبي فروقة
هيمنت مقولة «التحول الرقمي» على العقد الماضي حيث نقلت الحكومات خدماتها إلى الفضاء الإلكتروني واعتمدت الشركات التجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية، وكانت تلك نقلة ضرورية، خطوة تمهيدية للانتقال من عصر الورق إلى زمن الشاشة.
ولكن هذا «العقد الرقمي» لم يكن سوى الإحماء؛ فالثورة الحقيقية هي تلك التي ستعيد تعريف الدولة والتجارة للأجيال القادمة وهي «التحول الذكي»، ولم يعد التحول الذكي خيارا بسيطا للحكومات والشركات، بل شرط لا غنى عنه لتأسيس التنافسية المستقبلية وتعزيز الثقة العامة.
ولفهم حجم هذه النقلة لا بد من تحديد الفارق بين الحقبتين، فقد كانت الرقمنة في الأساس عملية أتمتة حيث اقتصرت على أخذ الإجراءات اليدوية القائمة مثل ملء نموذج ضريبي أو معالجة فاتورة وتمكين إجرائها بشكل أسرع وأرخص باستخدام الحاسوب أو الإنترنت وظلّ الذكاء بشريًا والتكنولوجيا كانت مجرد أداة أسرع.
أما التحول الذكي فهو عملية قائمة على الاستقلالية المعرفية والتعزيز المعرفي حيث يتعلق الأمر بتسخير الذكاء الاصطناعي (AI) وتعلّم الآلة (ML) وتحليلات البيانات الضخمة لدفع عملية صنع القرار الاستباقي وتحقيق نتائج وحلول موجهة ومخصصة لكل مستخدم وعمليات ذاتية التحسين فالنظام نفسه يصبح ذكيًا يتعلم من تدفقات البيانات الهائلة لتوقع الاحتياجات واتخاذ القرارات المعقدة في الوقت الفعلي غالبًا دون تدخل بشري مباشر.
إن توقيت هذا التحول الآن هو نتيجة تضافر عوامل عدة: فالكميات الهائلة من البيانات التي ولّدها العصر الرقمي والتي شكلت الوقود الحقيقي لعصر الذكاء والتقاؤها بالقوة المعالجة المتقدمة للحوسبة الحديثة ومرونة البنية السحابية المتعددة (Hybrid الجزيرة Multi-Cloud) ونضج نماذج الذكاء الاصطناعي (خاصة الذكاء التوليدي AI) مما جعل الطبقة «الذكية» ممكنة عملياً وضرورية استراتيجياً.
إن نموذج «الدولة الذكية» يزكي مفهوم الحوكمة الاستباقية التي تساعد في التنبؤ بالطلب المتزايد على الموارد العامة، مثل الرعاية الصحية أو اختناقات المرور أو مخاطر الاحتيال.
هذا يتيح للحكومة توزيع الموارد بشكل استباقي من تخصيص دوريات الشرطة أو تخزين الإمدادات الطبية أو إرسال تنبيهات شخصية ومناسبة التوقيت للمواطنين قبل تصاعد المشكلة مما يؤدي إلى تحسين كبير في كفاءة الموارد وارتفاع مستوى ثقة المواطن وتعزيز السلامة العامة والرفاهية.
لم تعد شركات التجارة الألكترونية الحديثة تعتمد على تقارير المبيعات الثابتة، بل باتت تدمج توقعات الطلب المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تستخدم تعلم الآلة لاستيعاب تدفقات بيانات واسعة ومختلفة من توقعات الطقس إلى اتجاهات وسائل التواصل الاجتماعي للتنبؤ بالطلب بدقة مذهلة وتعديل المخزون تلقائيا مما يقلل من تكاليف التخزين الباهظة ويضمن التسليم السريع وهذه العملية تضمن خلق سلاسل إمداد مرنة.
إن هذه القفزة الذكية تتطلب أكثر من مجرد برمجيات جديدة حيث إنها تتطلب إعادة هيكلة شاملة للأصول والأولويات التنظيمية حيث يجب البدء ببناء الأساس التقني (الركيزة المعرفية) والذي يبدأ بالبنية التحتية السحابية الهجينة والمتعددة وهي ضرورية لتحمل عبء البيانات الهائل وتوحيدها في منصات بيانات متقدمة (بحيرات البيانات Data Lakes).
تأتي البيانات من العالم المادي عبر الحوسبة الطرفية (Edge Computing) وأجهزة إنترنت الأشياء (IoT) التي تلتقط بيانات التشغيل عن طريق المجسات في الوقت الفعلي، ويتم توفير قوة المعالجة بواسطة منصات الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة الأساسية، والتي تحوّل البيانات الخام إلى رؤى قابلة للتنفيذ وقرارات مستقلة، ولكن على الحكومات أن تعمل على ضمان جودة البيانات ونظافتها وأمنها وامتثالها للوائح الخصوصية العالمية، ويتطلب ذلك تبني أطر لمحو الأمية الأخلاقية في البيانات للحد من تحيز البيانات وضمان النزاهة والعدالة والحفاظ على الشفافية الكاملة في آليات صنع القرار الخوارزمي.
إن أكبر عائق أمام التحول الذكي ليس التكنولوجيا بل الثقافة لذلك لا بد من تبني مفهوم «الذكاء أولاً» الذي يساعد على بناء ثقافة رشيقة وتعاونية تكسر الصوامع البيروقراطية القديمة مما يسمح للرؤى المدعومة بالذكاء الاصطناعي بالتدفق بحرية، ويتطلب ذلك أيضا إعادة تأهيل القوى العاملة حيث إن الطلب اليوم يزداد على المواهب ذات المهارات الهجينة وعلماء البيانات.
إن التحول الذكي يأتي مع مسؤوليات أكبر؛ فالاعتماد على الأنظمة المعرفية يخلق جبهات جديدة للمخاطر، بحيث يصعد للسطح أهمية مفهوم أمن الذكاء الاصطناعي والأهم من ذلك الأخلاق والثقة، اللذان هما حجر الزاوية للدولة الذكية والمؤسسة المعرفية، وهذا يتطلب تطبيق سياسات صارمة لحوكمة الذكاء الاصطناعي وشفافية الخوارزميات وترسيخ مفهوم الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير (XAI) (Explainable AI) والذي يجعل أنظمة الذكاء الإصطناعي قابلة للفهم والشفافية بمعنى آخر لا تكتفي خوارزميات XAI بإعطاء النتائج أو التوصيات بل تشرح أيضا: كيف ولماذا توصلت إلى هذه النتائج.
لن يُعرَّف العصر الذكي بالآلات، بل بالشراكة بين النية الإنسانية والبصيرة الرقمية فالحكومات ستصبح أنظمة تتعلم وتتطور باستمرار لخدمة المواطن، والشركات ستتحول إلى كيانات حية تتنبأ وتتفاعل وتتأقلم مع السوق، وهذا المستقبل يتطلب توازناً بين التكنولوجيا والثقة، بين البيانات والكرامة بين الكفاءة والإنسانية. من يتقن هذا التوازن سيقود الاقتصاد والحكم في العقود القادمة.
وفي النهاية، لن يكون التحول من الرقمي إلى الذكي نهاية الرحلة، بل بداية حقبة جديدة - حقبة الذكاء الفعّال حيث سيكون التحدي الأهم هو التحول من مستجيب رقمي إلى مهندس ذكي يفكر ويتعلم ويبتكر.