عبدالعزيز بن حمد القاضي
الفنون الشعبية مظهر من مظاهر الحياة عند الشعوب، وأسلوب من أساليب التسلية والترفيه الفردي والجماعي. والشعر عند العرب هو موضوع الغناء ومحتواه، فهما قرينان متلازمان، بل يُستعملان أحيانًا مترادفين، أي بمَعْنًى واحد. وقد ارتبطا بحياة العربيّ ارتباطًا وثيقًا، فقد كان يتَرَنَّم بالألحان دون كلمات، كما يُغنِّيها بكلمات عندما يُباشر شؤونه ويُمارس وأعماله؛ فهو يُغنِّي وهو يحرث، ويُغنِّي وهو يحصد، ويُغنِّي وهو يسوق الإبل، ويُغنِّي وهو يمتح الماء من البئر، ويُغنِّي وهو مسافر على ظهر بعيره... إلخ.
وهناك أنواعٌ من الغِنَاء الفِطْرِي كانت رائجة عند العرب منذ الجاهلية، قال ابن عبد ربه (العقد الفريد، ج7 ص28): «قال أبو المنذر بن هشام بن الكلبي: الغِنَاءُ على ثلاثة أوجه: النّصْب، والسِّناد، والهَزج. فأما (النَّصْب) فغناء الرُّكبان والقَيْنات، وأما (السِّناد) فالثَّقِيلُ التَّرْجِيعِ؛ الكَثِيرُ النَّغَمَات، وأما (الهَزَج) فالخَفِيفُ كله، وهو الذي يُثِيرُ القُلُوب، ويَهِيجُ الحليم». قلت فأما (النَّصْب) فنوعان: (الحُداء) ويُغنَّى على ظهور الخيل، و(الرُّكْبَاني) ويُغَنَّى على ظُهُور الإبل، وهو سَلَفُ الهَجَيْنِي. وأما (الهَزَج) فسَلَفُ الأغاني الشَّعْبيّةِ الخَفِيفَة، السَّرِيعَةِ الإِيقَاعِ، كالسَّامري والنَّاقُوز وغيرهما، وأما (السِّنَاد) فسَلَفٌ لبَعْضِ الفُنُون الثَّقِيلَة، ونظُنُّ أنَّ منه (سامري عنيزة).
ظهر (السَّامري) في حواضر نجد وشمالها وجنوبها وشرقها، في أدائه بالشكل المعروف اليوم؛ منذ قرنين تقريباً وكان -ولا يزال- هو (الفَنّ الشَّعْبِيّ) الأول فيها. ومن يَقرَأ في أدبيّات الفنون الشعبية في نجد يُلاحظ أنّ هناك اختلافًا في الرأي بين المهتمِّين حول (أصل السامري ونشأته)، فمنهم من يرى أنه إنَّمَا نَبَتَ ونَشَأ في نجد ثم انتقل منها إلى الخليج والعراق، ومنهم من يرى العكس، وأنَّ ألحانَهُ وإيقاعاتِهِ ورَقَصَاتِهِ هي التي طُوّرَت في نجد. وأيًّا كان الأمرُ فإنَّ هذا الخلاف لا يُقدّم -في رأينا- ولا يؤخِّر، والمُشَاهَدُ أنَّ الإجماعَ يكاد يَنْعَقِدُ على أنَّ (حَفْلَات السَّامري) السَّائِدَة في وَسْطِ المَمْلَكَةِ وجنُوبِهَا وشَمَالِهَا، تُعَدّ (المِثَال الأمثَل، والنَّمُوذَج الأَكْمَل)، وهي الأصل العريق للسَّامري، سواءُ أكان نابتًا في نجد أم مَنْقُولًا إليها ومُطَوَّرًا فيها.
ويَرْبطُ بعضُهم نَشْأَةَ السَّامِرِي بظُهُورِ قَصَائِدِ الشَّاعِرِ محسن الهزاني -رحمه الله- (ت 1245هـ)، حيث يذكر بعض الرُّوّاد أنَّهُ جدّدَ في أوزانِ الشِّعْر النَّبطِيّ، وأوجد (طَرْق) السامري. والصَّحِيحُ أنَّ السَّامري ليس بحرًا أو وزنًا، بل ألحانٌ غنائية تُغنى من معظم بحور الشعر -لا من بحر واحد- وفق إيقاع موحّد منتظم. أما محسن الهزَّانِي فرُبَّمَا تَزَامَنَ ظُهُور (فَنّ السَّامري) مع انتشار قَصَائِدِه، ورُبَّمَا ارتبَط غناؤُهُ في تلك الأيام ببعضِها. ولا شَكَّ في أنَّه أحدث تطويرًا ملحوظًا في محتوى الشِّعْرِ النَّبَطِيّ، فجدَّدَ في المَعَانِي ورَقَّقَهَا، واتجّه به إلى التعبير عن (مشاعر العشق والهوى)، ونظم فيه القصائد الخاصة التي تحرك القلوب، وتهز الوجدان. وهذا النوع من الشِّعر هو الذي يُناسب الغناء العاطفي أكثر من غيره، وانتشر في زمنه بحر (المسحوب) الذي يُنظمُ على قافِيَتَيْن، لكنه ليس أوَّلَ من نَظَمَ عليه كما يظن بعض السابقين، ولا أوَّلَ من نَظَمَ على القافِيَتَيْن.
أمَّا أقدم من اشتُهِر من الشعراء بالاهْتِمَامِ بالفَنِّ وغِنَاءِ الشِّعْر النَّبَطِيّ، فهو الشَّاعر محمد ابن لعبون -رحمه الله- (1205 - 1247هـ)، عندما كان في العراق الكويت والبحرين، فقد كان يقود الفِرَقَ الشعبية ويشاركها الغناء على الطِّيران، واشتهر بلون خاص من ألوان السامري وهو ما يُعرَف بـ(الفنّ) وأحيانًا يُسمَّى (الفَنِّ اللِّعْبُونِي)، وله ألحان كالخَمَّارِي والبَحْرِي والحَسَاوِي والنَّجْدِي والزُّبَيْرِي وغَيْرِها. ولا شك في أنَّ ابن لِعْبُون هو رائِدُ هذه الألحان والأَوْزَانِ الغِنائِيَّةِ.
ومن يتأمّل في ألحان كثير من الفُنُونِ الشَّعْبيَّةِ المنتشرة في الجَزِيرَة يُلاحظ أنها مأخوذة من ألحان السَّامْرِي النَّجْدِي (بخِلَاف سَامري عُنَيْزَة) وإنْ تَسَمَّتْ بأسْماءٍ أخْرى؛ خُصُوصًا إذا كَانَ أدَاؤُهَا يتماهى وينساق على إِيقَاعٍ وَاحِدٍ مُحدَّد: (ضَرْبَتَيْنِ مُتَتابِعَتَينِ على الطَّارِ أو الطَّبْلِ تَلِيهِمَا ضَرْبَةٌ واحدِةٌ مُنفَرِدَة)، وهذا هو إيقاع السامري النجدي المسمى في عنيزة (الحوطي). وكُلُّ ما اسْتَقَامُ لَحْنُهُ على هذا الإيقاع فهو (سَامْرِي) وإن تَسَمَّى باسْمِ خاصٍّ بالمِنْطَقَةِ التي تُشْتَهَرُ به، ومن ذلك فَنّ (الرّفَيْحي) الذي يُغَنَّى في مَنَاطِقِ السَّاحِلِ الشَّمَالِيِّ الغَرْبِيِّ، فهو في أَسَاسِهِ وأَلحَانِه -باستثناء طريقة أدائه- ما هو إلا نَوْعٌ من (السَّامْرِي) أَيْضًا. وقس على هذا كثيرًا من ألحان (القلطة)، وهي شعر المحاورة، وكثيرًا من ألحان (الشَّيْلات)، وكثيرًا من ألحان (الأغاني الشعبية) التي تُغنَّى على أوتار العود أو العود والإيقاع، وقد تُغنَّى بمصاحبة فرقة موسيقية. فـ(السامري) هو (أبو الألحان) في نجد، وهو بحرها الزاخر، ونبعها الذي لا ينضب، وهو واحة الغناء الشَّجِيِّ المُلهِم الذي يخلُب القلوب ويأسر الألباب، وهو الفنُّ الذي يشعل الجمال في خلايا المشاعر.
وأشهر أنواع السَّامري -في وسط المملكة- أربعة أنواع: (سامري نجد) ويُغنى في كل بلدان نجد، في القصيم والعالية وسدير والوشم وما حولهما، ويُسمَّى في عُنيزة باسم آخر هو (الحوطي)؛ للتفريق بينه وبين سامريِّها الخاص. وهناك (سامري حائل) وهو يتفق مع (سامري نجد) في الإيقاع، غير أنه يتميز بألحانه الخاصة ورقصته. والثالث (سامري الدواسر) وجنوب الرياض، وهو مختلف أيضًا في إيقاعه وألحانه ورقصته. أما الرابع فهو (سامري عنيزة) وهو مختلف تمامًا عن كل تلك الأنواع (في الإيقاع والألحان والرقص) المرافق لأدائه. وإيقاعه على الطبل يكون بـ(ضربة منفردة تليها ثلاث ضربات متتالية بطيئة). فالأصناف الثلاثة السابقة (سريعة خفيفة) تأخذ بمجامع القلوب فورًا، أما سامري عنيزة فبطيء ثقيل، وقد يَكُون مُمِلًّا لمن يُشاهده ويسمعه لأول مرة، والمللُ مصدره قريحته التي لم تعتد على هذا النوع من الفنّ، حتى إذا صبر عليه قليلا، وتأمل لحنه بأذنيه، ووعى أسلوبه الخاص بثاقب فكره، وأمعن النظر بحركات مؤدِّيه، رقصًا وصفقًا وضربًا على الطبول، وأدرك هذا التنظيم الموسيقيَّ المُتْقَن.. عندها سيطرب، بل رُبَّما أصابته خفَّةٌ تُخرجه من وقاره كما أخرجت زميلي العاقل الوقور الملتزم، من طوره عندما سمع في إحدى المناسبات الخاصة التي جمعتنا صوت طِيران السامري تتلاعب بها أيدي الضاربين، وكان قد اعتزل حلبة الغناء تورُّعًا، وذهب إلى مكان بعيد قليلا، لكنه بقي مشدُوهًا متسمّرًا ملتصقًا بجدار يُطِلُّ على الحلبة، ولما رآني عندما مررت به مصادفة، قال لي بكُلِّ براءةٍ وصِدق: (كنُّه يرقَع بقلبي!).
والشائع أن فنّ (السامري) إنما يُغنَّى على إيقاع الطبول والطيران، حيث يجلس المُغَنُّون في صَفَّيْن متقابلين، أحدهما يضرب على الطبول، والآخر يؤدِّي الرّقصة الخاصَّة به. ولكل منطقة أسلوبها في تنفيذ جلسة السامري. فالراقصون إما أن يكونوا هم الجالسين في أحد الصَّفَّين فيؤدّوا الرقصة وهم جلوس في أماكنهم، أو يكونوا بعضهم، أي واحدًا أو اثنين يخرجان من الصف ليُؤدّيا الرقصة بين الصَّفَّين. وفي سامري وحوطي عنيزة كلا الصفّين يَضْرِبَانِ على الطُّبُول في حين أن الراقصين وهما اثنان -أو واحد- يرقصان بين الصفين.
والسامري (ليس بَحْرًا أو وزنًا شِعْرِيًّا) يُنظم عليه، بل (ألحانٌ غِنَائيَّة) متعدّدة تُغنى من معظم بحور الشعر، وفق إيقاع واحد منتظم. والقصائد التالية -على سبيل المثال لا الحصر- كُلُّها تُغنّى على (ألحان السامري) وهي من أوزان مختلفة كما ترى:
1- (ما طَرَقْ يا بن جَلَقْ فوق الوَرَقْ) لابن لعبون، مِنْ (بَحْرِ الرَّمَل الثلاثي).
2- (يا هَلَ العَيْرَاتِ بَاكِرْ كان مَرَّيْتُوا طَوَارِف خِلِّي) لابنِ دويرج مِنْ (بَحْرِ الرَّمَل الخماسي).
3- (سَرَى البارِقَ اللِّي له زِمانَيْنِ ما سَرَى) لابن شرَيْم من بَحْرِ الهْلَالِي الطويل (المنكوس).
4- (يا حَمامَهْ غَرِيبَهْ عِنْدِ بابَ السَّلام) لعبدالله اللَّوَيْحان من (بَحْرِ المُمْتَدّ).
5- (يا عَلِي صِحْتِ بالصَّوْتَ الرِّفِيع) لابن لعبون، من (مجزوء المُمْتَدّ)
6- (يا حَمَامَهْ غَرِيبَهْ.. كِلِّ صَوْتٍ تِجِيبَهْ) لأحمد الناصر الشايع، من (مشطور المُمْتدّ).
7- (سِقَى صَوْبَ الحَيَا مِزْنٍ تَهَامَى) لابن لعبون، من (بحر الصخري).
8- (سَلَامِ يا دَارَ الغَضِي سَلَام) لعثمان بن سليمان، على (بحر الرجز الأحَذّ).
9- (بالله يا طَيْرِ ياللِّي.. طَرْدَ الهَوَى ما دَرَى بَهْ) ولا أعرف قائلها، من (بحر المجتث).
10- (يا عِنْقِ رِيمٍ فِرِيدُ وْحُوشْ) لعبدالعزيز البراهيم السُّلَيْم، من (الهْجَيْنِي القَصِير).
11- (واللهِ واللهِ وبْحَقَّ الذِي نَزَّلْ) لمحمد العبدالله القاضي من البحر البسيط (الهجيني الطويل).
12- (يا دَارِ وَيْنَ الحَبِيب.. اللِّي سَلَامُهْ هَلَا) لماجد الحمود الرشيد من (مشطور الهجيني الطويل)،
وهو المُسمى عندهم (الحُداء)، والحُداء في أصله غناء لا وزن.
13- (أنا وَجْدِي وجُودَ اللي مِرِيضٍ بالحَشَا وَجْعانْ) لمحمد العبيدالله، من بَحْرِ (الهَزَجِ الرُّباعِيِّ) المُسَمَّى اللَّحْن الشيباني أو اللويحاني.
14- (غَرِيمٍ بالهَوَى رُوحِي على طِفْلٍ قِطَف رُوحِي) للقاضي، من (مجزوء الهَزَج).
15- (نَاقِتِي يا نَاقِتِي لا رُبَاعُ ولا سِدِيسْ) لناصر الفراعنة، من (البَحْرِ المَدِيد).
16- (عِرْفٍ جِدِيدٍ وقَوْلٍ جِدِيدْ) لعبدالعزيز القاضي (ت 1308هـ) من (بحر المتقارب).
17- (سرَّحَ القَلْبِ في رَوضِ عِشْبَ النِّدَمْ) لمحسن الهزاني، من (بحر المتدارك).
18- (لا جَا ثَوْرٍ يَخْطِب بِّنْتِكْ) لحميدان الشويعر، من (الرَّجْد) وهو شكل من أشكال بحر المتدارك.
19- (يا حَمَامٍ على الغَابِهْ يِنُوحِي) لإبراهيم الكنعاني، على (بحر المُطَّرِد المَحْذُوف) وإن شئت فهو على (مجزوء الممتد المُرفَّل).
20- أمَّا أشهر بحر يُغنّى عليه السامري فهو بحر (المَسْحُوب)؛ لسُهُولَتِه، وربَّمَا سُمِّيَ بذلك لأن مُغَنِّيهِ يَسْحَبُ الأَنِينَ عند الغناء، قال أبو عبدالرحمن ابن عقيل (الشِّعْرُ النَّبَطِيّ، أّوْزَانُ الشِّعْرِ العَامِّيّ ص143): «وسُمِّيَ مَسْحُوبًا لأنَّ المُغَنِّي يسْحَبُ بعضَ الحُرُوف». قلت: ومعظم الشِّعْر الذي يُنتج اليَوْمَ إنَّمَا يَكُون على (المسحوب). وهذه القصائد وأمثالها تُغَنَّى على أَلحانِ السَّامْرِي بإيقاعٍ واحدٍ وألحانٍ و(شيلاتٍ) مُتَعَدِّدَة أَيْضًا.
وألحانُ (السَّامري) لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، بل يتعذَّر حصرُها أو تحديدُها، لأنَّها مُتوالدة لا تنتهي. ومَنْ حَصَرَهَا في عَدَدٍ مُحدّد فربّما قصد بها ما يُغَنّى في جلسات السَّامري على الطبول فقط، والذي نراه ما ذكرناه من أن ألحان السامري ليست مقصورة على جلسات الطبول والطيران بل تَمْتَدّ إلى ألحان (الشيلات) و(القلطة) و(الأغاني الشعبية)، والألحان في هذه الفنون لا يُمكن حصرُها، فـ(الألحان) ظواهر صوتية تخضع لمتغيرات متعددة من النَّبْر والتنغيم والتركيز على المقاطع الصوتية الطويلة والقصيرة، وعلى إطالة الصوت وتقصيره.. وغير ذلك، كما تخضع أيضًا لطُولِ البَيْتِ المُغَنَّى وقِصَرِه، إمَّا بِتمَامٍ أو بشطْرٍ أو جَزْءٍ أو نَهْك، أو بعِلَلِ زِيادَةٍ أو نَقْص، فضْلًا عن خُضُوعِها لاعتبارات ذوقية تُفرزها قرائح موسيقية.
نشأة سامري عنيزة:
ولا يوجد -حسب اطلاعي- تاريخٌ مُدوّنٌ عن الفنون الشعبيّة في عنيزة وعلى رأسها (فنّ السَّامري) الخاص بها، فالتَّأْريخ للفنون الشعبية في نجد وغيرها من مناطق المملكة يكاد يكون معدومًا. وكل ما يُتداول عن تاريخ السامري في عنيزة إنَّمَا يُتَناقَل شفويًّا، أو يُدوّن تدوينًا موجزًا، إيجازًا يفتقد التحقيق والتوثيق. ولا شك في أن تدوين هذا التاريخ المتناقل شفويًّا يتعيّن اليوم، ويُعدّ من أظهر واجبات المهتمّين؛ لئلا يضيع كما ضاع كثير من التراث وغيره بسبب إهمال التدوين.
وذكر لي الأستاذ إبراهيم الخليفة، وهو مرجع في الشعر النبطي والتراث اللفظي، نقلًا عن خاله خليفة العبدالله الخليفة رحمه الله (1347 - 1425هـ) وهو من عشاق فنِّ السَّامري ومؤسسي فرقة سامري أهل عنيزة في الرياض؛ أنه سمع أن الرواة والمهتمين بتاريخ سامري عنيزة يكادون يُجمِعُون على أن مؤسسه هو (علي بن سالم الحريقي) المتوفى في حدود سنة 1345هـ. ثم ذكر لي الأستاذ إبراهيم نقلًا عن خال والده الشاعر منصور الكنعاني أن مؤسس السامري ليس (علي الحريقي) كما هو رائج، بل والده (سالم الحريقي)، وسالم -كما يذكر الكنعاني- شاعر غزل، وكان ثريًّا له أملاك في الوادي والعوشزية وعنيزة. وكان له مجلس (اِقْهَوِهْ) في الوادي يجمع فيها جيرانه الفلاليح يوما في الأسبوع بعد صلاة العشاء، ويقدّم لهم القهوة والتمر (القدوع). وفي تلك الجلسات كانوا يُغنّون السامري، وكان (يشيل بهم) سامريّات من شعره، وكان صوته عذبًا شَجِيًّا ندِيًّا. ويقول إبراهيم الخليفة أيضًا: عن سالم الحريقي إن شعره لم يُدوّن للأسف، وإنه سمع له سامريّتين، لكنه يتأسَّف على أنَّهما امّحتا من ذاكرته، ولم يبق منهما فيها سوى بيت واحد، وهو قوله [من بحر الرّجز المقطوع]:
يا مِنْ يِبَشِّرْنِي إلى جَتْ بَانِهْ
وَأعْطِيهِ بِشْتُ ومِجْنَدُ وخَرْجِيِّهْ
أما ابنه علي فقد اطّلع على تلك الجلسات وحضرها في مجلس والده ثم حلّ محلّه بعد وفاته، واستمر على طريقته في إقامة حفلات السامري البسيطة في مجلسه. وكان علي يدعو المهتمين بالشعر في عنيزة إلى مزرعته في الوادي التي ورثها عن والده، للمشاركة في جلسات السامري. فتكوّنت في هذا المجلس فرقة تغني هذا الفنّ، من المقيمين في الوادي ومن القادمين من عنيزة، ومنهم حمد المحمد القاضي (ت 1365هـ)، وكانوا يُغنُّون في مجلس الحريقي، فأراد حمد أن يُطوّر في (السامري) ويُضيف إليه بعض (الصَّفق والحركات الأدائية)، غير أن الحريقي رفض ذلك، وكان وقتها كبيرًا قد تجاوز الثمانين، فقال حمد: «أجل حنّا نبي نسمر بعنيزة، والباقين اللي بالوادي بهم بركة».
فشكّل حمد فرقة من داخل عنيزة، ولعبوا لأول مرة خارج سور العقدة بعد مصلى العيد الغربي، وكان صوتهم يسري في الليل فيسمعه أهل الأحياء الغربية كحي الشعيبية والحويطة. فشكاهم أحد السكان على الشيخ صالح العثمان القاضي (قاضي عنيزة من 1324 - 1351هـ)، وقال له: إن صوتهم نسمعه ونحن في بيوتنا، وفلان الذي يُصلّي معكم منهم، فقال له الشيخ صالح: «خير إن شاء الله، ترضون إن شاء الله.» وبعد صلاة أحد الفروض نادى الشيخ ذلك الشخص الذي سمّاه الرجل وذكر أنه من المجموعة التي تُغَنِّي، وقال له: «والله البارح لعبكم ما مثله، لولا واحد منكم صوته يسبقكم، علموه لا يِخْلِفْكُم الشَّيْلة»، فلما ذهب الرجل إلى أصحابه، أخبرهم بما قاله له الشيخ، وقال: «معناته ابعدوا عن الديره»، فذهبوا إلى النّقَيْلِيِّة، وهي مزرعة في جنوب عنيزة الغربي تبعد عن البلد حوالي ثلاثة كيلومترات في ذلك الوقت، وهي اليوم داخل حدود المدينة. ويستخلص الأستاذ إبراهيم الخليفة من هذا ما يلي:
1- أن مؤسّس السامري في عنيزة هو (سالم الحريقي) وليس ابنه عليًّا، وإنما واصل علي ما بدأه أبوه. وهذا لم يُذكر من قبل، يقول إبراهيم: وربما اسْتُنْكِرَ هذا من قِبَل البعض، لكننا نرويه عن مصدر موثوق، وشاعر معروف هو منصور البراهيم الكنعاني (1322 - 1417هـ) وهو ابن الشاعر إبراهيم الكنعاني صاحب السامريَّة الشهيرة (يا حمام على الغابه ينوحي).
2- أن قصة الشكوى حدثت في الأربعينيات الهجرية، لأن الشيخ صالح العثمان القاضي توفي سنة 1351هـ، وعلي الحريقي توفي بعد انفصال الفرقة بأربع سنوات عن 85 عامًا تقريبًا. فإذا كانت القصة حدثت في أوائل الأربعينيات أي سنة 1341هـ أو قَريبًا منها، فإن الحريقي يكون تُوُفِّيَ سنة 1345هـ ويكون ميلاده قريبًا من سنة 1260هـ، أمَّا والده فرُبَّمَا تُوُفِّيَ في الرُّبْعِ الأَخِيرِ من القرن الثالث عشر. وهذا يعني أنَّ أقدم ذكر لـ(السَّامري) في عنيزة كان في مجلس سالم الحريقي في منتصف القرن الثالث عشر تقريبًا أي قبل 200 سنة، تزيد أو تنقص. وربما كان يُغنَّى في عنيزة قبل هذا لكن لا يُوجد ما يؤكد هذا أو ينفيه.
3- أن سبب انفصال فرقة عنيزة عن الفرقة الأساسية التي نشأت في الوادي، لم يكن (بُعد المسافة) كما يُشاع، بل الخلاف على التطوير، فقد كانوا يَقْطَعُونَهَا بلا ضَجَر قبل الخلاف.
4- أن رقصة السَّامري المصاحبة لغنائه اليوم وهي (الحركات والتصفيق)، أدخلها على الأداء حمد المحمد البراهيم القاضي، مؤسس الفرقة في عنيزة وأوّل رئيس لها، وأنه ربما استفاد في هذا التطوير من بعض الفنون الخليجية. ويذكُر إبراهيم أيضًا أن من الطرائف التي تُتناقل عن شغف حمد القاضي بالسّامري أنه أوصى أن يُعطى جلد أضحيته للفرقة لتُرقم به الطبول. ولا يزال أسلوب قيادة الفرقة الذي ابتكره حمد بإشارات مثل (ارفع - نَزِّل) مُتَّبَعًا حتى اليوم.
انتهى ما ذكره لي الأستاذ إبراهيم الخليفة حول نشأة السامري.
وحرصًا على هذا التراث، واهتمامًا بهذا الفن، أقامت (دار عنيزة للتراث الشعبي) في مَقَرِّهَا، ندوة حوارية عن الفنون الشعبية في عنيزة، برعاية صاحب السمو الملكي أمير منطقة القصيم، وقد ناب عنه في افتتاحها محافظ عنيزة، وكان عنوان الندوة (ملتقى الفنون الشعبية - سامري عنيزة)، واستمرت ثلاثة أيام من 4-6 محرم 1446هـ 10-12 يوليو 2024م، وشارك فيها نخبة من المهتمين والمختصين بالثقافة والتراث من المملكة والخليج.
** **
- بقلم: عبدالعزيز القاضي