د. ناهد باشطح
فاصلة:
«الحرية هي أن تكون كما أنت دون أن تخاف من أن تكون مختلفاً»
-أريك فروم-
*****
بالرغم من أن مقالتي اليوم هي تجاربي في مانشستر إلا أنها جزء من رسالة زاويتي «ما بين السطور»، التي لا تبحث عن الأخبار بقدر ما تُحلّل ما وراءها.
هنا «الخبر» ليس ما حدث في مانشستر، بل ما لم يحدث: أن تدخل فتاة الجامعة دون أن يلتفت إليها أحد، ولا تشعر بأن العيون تنظر إليها بفضول مشهد عادي في الظاهر، لكنه يكشف فرقًا حضاريًا عميقًا في كيفية رؤية الإنسان للإنسان.
أتذكّر ما قالته لي ابنتي «علياء» عندما عادت من أول يوم دراسة في جامعة مانشستر:
«ماما، لما أتيت إلى جامعة مانشستر لم ينظر إليّ أحد رغم أني كنت مرتبكة قليلا في أول يوم دراسي بدون أصدقاء».
فات على صغيرتي أن جامعة مانشستر تضم أكثر من 26000 طالب جامعي و14000 طالب دراسات عليا ويلتحق بها أكثر من 10000 طالب دولي من أكثر من 160 دولة حول العالم.
هذا التنوع يخلق ثقافة قبول التنوع والاختلاف لكن ابنتي قادمة من ثقافة مجتمع مختلف، بعض من أفراده يقيسون الشخص بمعايير جماعية.
في جامعة مانشستر، شعرت ابنتي بأنها تُرى كإنسانة فقط، لا تُختزل في مظهرها أو لهجتها أو خلفيتها، تعلّمت أن تمشي بثقة في ممرات الجامعة دون أن تتساءل إن كان لباسها يرضي الآخرين، كانت تتعلّم التأقلم، أما في مانشستر، فسوف تتعلم أن تكون كما هي.
هذا لا يعني أن المجتمع البريطاني مثالي، لكنه يملك حسًّا متجذرًا في احترام «المساحة الشخصية».
الناس في بريطانيا لا يسألونك عن أمورك الخاصة، ولا يتدخلون في خياراتك، ولا يطلقون الأحكام بناءً على المظهر، في المقابل، ما زلنا في مجتمعاتنا العربية نخلط بين «الاهتمام» و«الفضول»، بين «الاهتمام بالآخر» و«مراقبته»، وغالبًا نغلف ذلك بالنوايا الحسنة.
في الأسر البريطانية يتعلم الطفل معنى الحدود منذ نعومة أظافره، بينما في المجتمعات العربية يتعلم الطفل الإندماج الإجتماعي قبل الاستقلال النفسي فينشأ وهو يحاول إرضاء الآخرين أكثر من حماية ذاته.
عندما أعيش أيامي في مانشستر أعيش تفاصيل ثقافة مختلفة وأكتشف يومًا بعد يوم أن الإختلاف بين المجتمعات لا يُقاس باللغة أو المناخ أو الملابس مثلاً، بل في المسافات غير المرئية بين الناس، وربما تلك التي تُسمّى «الخصوصية».
في مانشستر، أجد الخصوصية ثقافة تُمارَس في التفاصيل اليومية، فالابتسامة العابرة ليست دعوة للحديث، بل إقرار بوجودك، والقاء التحية في المصعد لا تعي بداية التعارف
فالخصوصية لا تعني الإنعزال، بل احترام حدود الوجود الإنساني، والحرية ليست أن تفعل ما تشاء، بل أن تكون كما أنت دون خوف من التقييم.
في دراسة أجراها مركز الأبحاث British Future عام 2014، أظهر استطلاع للرأي أن 87 % من البريطانيين يؤيدون تدريس القيم البريطانية في المدارس لتعزيز الاندماج الاجتماعي، رغم أن نصفهم تقريبًا يرون أن مفهوم «القيم البريطانية» ما زال غير محدد بوضوح. وقد جاءت أهم هذه القيم وفق المشاركين: احترام القانون، وحرية التعبير، والديمقراطية، واحترام الملكية الخاصة، والمساواة بين الجنسين.
وأشار التقرير إلى أن التاريخ المشترك لبريطانيا مع دول الكومنولث، خصوصًا في الحرب العالمية الأولى، يمكن أن يكون وسيلة فعالة لترسيخ تلك القيم المشتركة وتفسير التنوع الثقافي في المجتمع البريطاني المعاصر.
حين أكتب هذه اليوميات، لا أروي تجربة شخصية بقدر ما أُفنّد فكرة اجتماعية راسخة بأن تدخلنا في شؤون الاخرين أو الحكم المسبق عليهم هي ممارسة اعتيادية لا تشكل انتهاكا لخصوصية وحدود الآخر، وربما علينا أن نتعلم درسًا بسيطًا، أن نترك الناس يعيشون كما هم، دون أن نُصنّفهم أو نُعيد تشكيلهم بما يناسبنا..
ففي النهاية، الاحترام الحقيقي يبدأ من النظرة.. أو من غيابها.
** **
المصادر
British Future. (2014, July 5). Public support - teaching British values in schools. Retrieved from https://www.britishfuture.org/using-shared-first-world-war-history-teach-british-values-promote-integration/