د.محمد الدبيسي
ومن ثَمَّ، فمصطلحُ: (الأدب الحديث، والأدب العصري) الذي ساقه الأنصاريُّ ولَهَجَ به كثيرًا في كتابه في مواضعَ عديدة؛ وفي مقالاته في المنهل، وفي صوت الحجاز؛ مصطلحٌ ملتبسٌ لديه هو. وإذا كان مؤمنًا بفهمِهِ له، على النحو الذي أورده في كتابه، في سياقاتٍ عديدةٍ؛ فليس فيما أوردَهُ شيئًا يُذكر من التَّحديثِ، أو العَصريَّة.
وممَّا يثير العَجَبَ والتساؤل، قوله في هذا السياق: «لقد سبقَ أن أوْرَدْنا ما كنَّا نُعانيه من نُكرانِ الرأي العام والخاص، وشدَّةَ نفوره مما يُسمَّى بالأدبِ العَصري، والتفكيرِ العَصري، وأوضحنا ممارستَنا لهذا الشيءِ الممنوعِ بشدَّةِ النَّكيرِ وشدَّةِ النفورِ، في خفَاءٍ مُطبقٍ وفي حَذرٍ شديد»؛ وكعادةِ الأنصاريِّ عندما يذهب إلى تعظيم صنائعه وإنجازاته، فإنَّه يتصوَّرُ أحوالًا رافضةً لها، وغير مشجعةٍ على المُضيِّ بها، ويحيطها بممانعاتٍ ترفعُ من شأن منجزاته، لتصبح منجزًا فريدًا، (هو الأوَّل من نوعه)، كما كان يردِّد دائمًا، في مثل هذه السياقات والأحوال، يقول: «إنَّ مطالعة كتب الأدب الحديث، ومطالعة الصُّحفُ الحديثة كالأهرام والمُقطَّم، من قِبَلِ أي ناشيءٍ تجعله محلَّ سخريةٍ، ومكان نقدٍ لاذعٍ، لدى جمهور الناسِ، وبخاصةٍ العلماء والمشايخ والطلبة، وربما وصَمُوا من عَرَفوا فيه هذا الميل إلى هذه الكُتُب، بأنَّه (فرمسوني)، بمعنى أنَّه منحلُّ العقيدة والأخلاق»، وجاء حديثه هذا، في سياق الحيثيات التي أراد بها، إثبات ريادته الأدب الحديث في المدينة المنورة، هو وصديقه عبيد مدني. ثمَّ ساق هذا الحديث عينه، في أواخر حياته، في حفل تكريمه في اثنينية عبدالمقصود خوجة، في وراد حديثه عن مرحلة تكوينه الثقافي.
والإشكالُ في الهيئة التي صوَّرَ بها عبدالقدوس الأنصاري الأحوال الثقافية في عصره، ومن بينها (حُرْمَةُ قراءةِ الصُّحُف والمجلات الأدبية)؛ أنَّها أضحتْ مسلَّمَةً ارتكن إليها باحثٌ جادٌ، هو الأستاذ علي العميم، الذي عُرِف باهتمامه بدراسة بنى المعرفة، وأحوال الثقافة ورموزها، واتجاهاتها في البلاد العربية، وقد انتهى: إلى أنَّ «الحكاية التي رواها عبدالقدوس الأنصاري، تشير إلى قتامة الجو الثقافي، ومدى ضيق الأُفُق الفكري عند أساتذتهم الكبار، الذين كانوا من علماء الدين ورجاله، إلى الحدِّ الذي يحظرون فيه قراءة الجرائد والمجلات؛ حظرًا دينيًا، وذلك في مقالة له بعنوان: (مداعبةٌ أم سِبابٌ؟)، تناولَ فيها الأحوالَ الثقافيةَ في الحجاز في تلك المدة، على ضوء معطياتٍ كانت قائمةً آنذاك، وشواهد نصيَّةٍ عديدة،كان حديثُ الأنصاري من بينها.
ولم يكن الأمرُ على حقيقته؛ كما صوَّر الأنصاري، الذي ذكَرَ ما يناقضُ حديثَهُ هذا، وما يُخالف أيضًا ما انتهى إليه العميم، يقول الأنصاري: «واستمرَّ وضع الأدب الحديث مقصورًا على بضعة نفرٍ يزاولونه..، وفي هذا أذكُرُ أنَّي وربما عبيد مدني أيضًا، نُطْلِع أساتذتنا على شيءٍ ممَّا نكتبُ في شعرٍ أو نثرٍ، وكان شيخنا محمد الطيب الأنصاري؛ حفيًّا بهذا الذي نقومُ به، كما أذكُرُ أنَّ الأخ السيد عبيد مدني، كان يفعل شيئًا من هذا، تجاه شيخه المشار إليه، وتجاه موجِّهِهِ الأدبيِّ في الشعر خاصةً، الشيخ محمد العُمَرِي..، وكم مرةً لاقينا من التشجيع والتقدير، فيما سَطرْناه وفيما حَرَّرناه، فيزيدنا ذلك إقبالًا على كما نحن فيه، وتنفتح بذلك أبواب الاعتزاز بالإنتاج الأدبي الحديث».
وتؤكِّد حديثه هذا، ترجمتُهُ المطوَّلَة لشيخه العلَّامة محمد الطيب الأنصاري، وحديثه عن فلسفته في التعليم وطرائقه فيه -في المبحث المخصَّص للتراجم في هذا الكتاب- وهي أيضًا تنقض ما قبلَهُ؛ ممَّا نعدُّه محض مغالاةٍ، ضخَّم الأنصاري بواسطته، ما جُوبِهَ به ورفاقه من (ممانعاتٍ)، ضد الأدب الحديث في تلك المدة، تصل إلى حدِّ التشكيك في دينهم وأخلاقهم، ووصفهم بـ(الفرمسونية)، وهو ما لا يسنده من الواقع الثقافي والفكري شيئًا، بحسب ما سقناه من شواهد من أحاديث الأنصاريِّ نفسه، ومن ذلك قوله أيضًا، في وصفِ مدرسةِ شيخِهِ، العلَّامةَ محمد الطيب الأنصاري، في المسجد النبوي، التي انخرط فيها مبكِّرًا، هو ورفاقه: «هذه المدرسةُ بالذَّات، تتَّسِمُ بطابعِ التَّحررِ في التفكير، والنُّزوحِ عن الجمود، والدعوةِ الصَّارخةِ إلى استعمالِ العقلِ في مسائلِ العِلْمِ والحياة، والتقدم والنهوض والطموح، وبما تغرسه في نفوس طلابها، من التَّشجيعِ على حريةِ البحث والاستنتاج والقول، وتحرِّي الحقَّ والحقيقةَ أينما كانا.. وبما تنشدُهُ من إحياء الرُّوحِ العربية الاصيلة في النفوس.. وفي الأدبِ وفي الشِّعر، وحتى في الحديث العادي، إنَّ مدرسةَ أستاذنا المبرور هذه؛ كانت كمدرسةِ الشيخ محمد عبده، والأفغاني».
ثُمَّ إنَّه في المناسبة ذاتها، التي تحدَّث فيها عن (حُرْمَةِ قراءةِ الصُّحُف والمجلات)، ذكر: «أنَّ والد صديقه عبيد مدني، السيد عبدالله مدني، كان من أعيان المدينة الكبار، وكان متفتِّح الذهن، وكانت لديه مكتبةٌ عامرةٌ، وكان يأتي ببعض الصحف والمجلات، والكُتُب الحديثة، ومنها (دائرة المعارف)، وكُتُب (المنلفوطي)، وكُتُب (طه حسين)، ومن سبقهم مثل (سامي البارودي)»، وإلى جانب هذا كله، فقد كان من بين خاصَّةِ الأنصاريِّ، من زملائه في مدرسة العلوم الشرعية، ثمَّ زميلًا في المنهل وكاتبًا فيها، الأستاذ أحمد رضا حُوحُو، وكان ليس يتعاطى الأدبَ الحديثَ فحسب؛ بل الآداب الأجنبيةِ، ومنها الأدب الفرنسي، ولُغَتِهِ، التي يقول الأنصاري: إنَّ حُوحُو» كان يرتَطِنَها كأحدِ أبنائها، ويُحسنُ الكتابةَ فيها، كما يُحسِنُها أيُّ واحدٍ في باريس».
ثمَّ كيف يستقيمُ حديثُ الأنصاريِّ حول الأدب الحديث، الذي وصفه بـ(الشيءِ الممنوعِ، الذي كان يمارسُ بخفَاءٍ مُطبقٍ، وكان يُقابلُ بشدَّةِ النَّكيرِ وشدَّةِ النفورِ)، مع حالِ الأدبِ في المدينة المنورة، التي أوردنا أمثلةً لبعض مضامينه واتجاهاته..؟، وما ذكره الباحثون حوله، عند البرَّادة، والأُسكوبي، والعُمَري، وغيرهم..؟، وما ذكره الأنصاري نفسه، حول أولئك الشعراء، وابن النَّحاس قبلهم، وما ذكره عن محمد سرور الصبَّان، وأحمد رضا حوحو، بعدهم..؟.
وأمَّا ماهيَّةُ الأدبِ الحديثِ وكُنْهَهُ عند الأنصاري، والذي بسببه: (عانى النُّكران، والنَّكير، وشِدَّة النُّفُور، وكان في خَفاءٍ مُطْبقٍ، وحَذرٍ شديد)، فله عنده شواهدَ عِدَّة منها: البيتان اللذان أوردناهما سابقًا لصديقه عبيد مدني، وأراد مدني بهما مدَّ حبلَ الوُدِّ الذي كاد ينقطعُ بينهما.
ومن شواهدِهِ أيضًا، قول الأنصاري: «وقد تجلَّى هذا الشُّعورُ المتعاطفُ مع الأدبِ الحديثِ في وسَطِ سنة 1345ه=1926م، وأقربُ شاهدٍ عليه القصيدةَ المزدوجةَ، التي نظَمَها الشاعر الكبير عمر بري، وكاتبُ هذه السُّطور، وهي قصيدةٌ بارعةٌ ومعبرةٌ عن أغراضِها خيرَ تعبير، في أسلوب عصريٍّ حيّ،ٍ يفيضُ بالحرارةِ والحيويَّةِ والاشراق، ومطلعُها:
يدُ الأيام كُفِّي سطوَ بأسك
فما يقوى على أدنى حراسك»
ولا شكَّ أنَّ في القصيدةِ -كما ينبئُ مطلعُها- كلَّ شيءٍ..، عدا (العَصريَّةَ والبراعَةَ والحيويَّةَ والاشراق)، غير أنَّ حماسَ الأنصاري آنذاك، دَفَعَه إلى كيل المناقبِ والمدائحِ لصنيعه، وشوَّشَ عليه النظر بموضوعيةٍ وتجردٍ، لما يسوقُهُ من شواهد على الأدب الحديث، الذي ادَّعى ريادَته في المدينة المنورة، هو، وصديقه عبيد مدني، وحدهما لا شريك لهما، في ذلك الوقت.
ثم عادَ وأشرَكَ معهما آخرينَ بعد حينٍ، وذلك في محاضرته التي ألقاها في جامعة الملك عبدالعزيز، عام 1398ه=1978م، يقول: «كان هؤلاء الشباب، يقومونَ بالتدرُّب خُفيَةً على أساليبِ الأدبِ الحديثِ يوميًا فيما بينهم، يكتبُ بعضُهم كلماتٍ أو أبياتًا فيعرِضُها على الآخرين، فيبحثونها من أبعادها..؛ وكان الرُّوادُ الأوائلُ للحركةِ الأدبيَّةِ الحديثةِ الناشِّئةِ، هم: عبيد مدني، علي حافظ، عبدالقدوس الأنصاري، عبدالحق نقشبندي، أحمد الخياري».
ومن ثَمَّ، فحديثُ الأنصاريِّ عن ريادةِ الأدب الحديث؛ مذبذبٌ لا يكاد يستوي على جادةٍ، ولا يستقيم له سياقٍ، ولا يضبطه توقيت، ولا ينحصر بأشخاصٍ من الأدباء المدنيين، أو غير المدنيين.
فهو مرَّةً يجعل تاريخ وضع بذوره، عام 1338ه=1919م، ومرَّةً يجعلها عام 1342ه= 1923م..!، ومرَّةً يجعله مُوافقًا في بداياته لصِنوهِ أدبَ مكة المكرمة وجدة، ومرةً يفصله عنهما..!، وحينًا يذكرُ ويؤكِّدُ ويكرِّرُ أنَّه وعبيد مدني وحدهما، كانا رائدي هذه الاتجاه، ثمَّ يعودُ ويشرِكُ معهما (ثلاثةً) من أدباء المدينة المنورة، كما في حديثه الآنف..!، كما سبقَ ونفحَ غير هؤلاءِ جميعًا مَكرمةَ ريادة الأدب الحديث، كما مرَّ بنا.
و كانت مسألةُ الأدبِ الحديثِ عند الأنصاري؛ محطَّ نظرٍ من بعض معاصريه، مثل الأستاذ محمد علي مغربي (ت 1417ه= 1996م) -وهو من أدباء جدة، الذين نفى الأنصاري مرةً وجود اتصالٍ بهم، وأثبته في أخرى- الذي قال: « إنَّ قراءاتِ عبدالقدوس الأُولى تجعلُ الأدبَ القديمَ؛ هو القدوةُ التي يحذو حذوها»، وأنَّ الأدبَ الحديثَ لم يَرُقْ له، ولم يكن يُسيغه، حتى اتصلَ بعبيد مدني في حلقة شيخهما الطيب الأنصاري، وكان عبيد مدني، بحسب مغربي: «من الراغبين في التجديد، وأرادَ الشابُ عبيد أن يُشركَ صديقَهُ وزميلَهُ فيما يقرأُ، ليكونَ هذا سبيلًا إلى إشراكِهِ معه فيما يكتبُ وينظِمُ، وأَسَرَّ إلى زميلهِ عبدالقدوس بما يريدُ، ولكنَّ عبدالقدوس لم يتقبَّل هذه الدعوة بادئ بدء، لأنَّه لم يكن قادرًا على تقبُّلِ هذا الجديد، الذي لم تنفتِح نفسه له، ولأنَّه كان يريدُ العيشَ فيما أَلِفَ واعتادَ».
وإلى ذلك، فعبدالقدوس الأنصاري في نظرِ جُلِّ الأدباء والباحثين، الذين تناولوا الحركة الأدبية في الحجاز، ثم في اطارها الوطني الأعم المملكة العربية السعودية؛ أديبٌ تقليديٌ رائدٌ، اصطبغَ أدبه شعرًا وسردًا، بخصائصِ التيار المحافظ، ولم يكن يُسيغَ الأدبَ الحديث؛ كما قرَّرَ مجايله مغربي في حديثه السابق، وكما تظهرُ أعمالُهُ السرديَّةِ والشعريَّةِ، ومباحثُهُ النقديَّةِ، وإن دنا أحيانًا من الإحيائيين، في جوانب من شعره ونثره.
ولذلك كان الأستاذ محمد حسن عواد؛ يرى أنَّ محافظةَ الأنصاري، لم تتجلَّى في إنتاجه الأدبي فحسب، بل تجاوزتْهُ إلى المنهل، «التي ظلَّتْ تتمَيَّزُ بلونٍ حرصَ الأستاذُ على التزامهِ طيلة هذه السنين، وهو اللونُ الملتزمُ بالاعتدال، إلى حَدٍّ جعلَ للمنهلِ جمهورًا مُعيَّنًا من القُرَّاء»، وكان هذا جزءًا من مقالةٍ تأبينيةٍ نشرها العوادُ في المنهل، ولذلك فهو يضبطُ كلامه إلى أقصى حدٍّ، وإلَّا فـ(لونُ المنهل) الذي رآها العوادُ عليه، لا يمكنُ أنْ يروقَ له، في جُلِّ أحواله.!.
وإلى مِثلِ رأي العواد، ذهب الدكتور عبدالله الحامد، حين جعل الأنصاريَّ ضمن من وصفهم بـ(جماعة الغزَّاوي) -نِسبةً إلى الشاعر أحمد إبراهيم الغزَّاوي (ت1402ه=1981م)- وذكرَ أنّ هذه الجماعة من الشعراء؛ تمتاز بمَيْلِها الشديد إلى المحافظة، وقال: «ويمكنُ أن أُسمِّيه (مذهب المنهل)، والغزَّاوي أكبر شعرائه، والمنهل أكثر عنايةً بالأدب عامةً، وبه خاصةً، والاسمان وجهانِ لعملةٍ واحدة».
وفي سياق فَهمِ موقع الأنصاري من الأدب الحديث، واتجاهاته، يقول أحد الباحثين المؤسِّسِي حقل الدراسات النقدية في أدبنا الوطني، الدكتور محمد الشامخ: « كان الأنصاريُّ معتدلًا في موقفهِ من حركاتِ التجديدِ الأدبي، التي حفلَ بها قرنُنا هذا، فلم يسمحْ لأمواجِ التَّحررِ الأدبي أنْ تذهبَ بفكرهِ أنَّى شاءت». وكذا الدكتور بكري شيخ أمين، الذي رأى الأنصاريَّ، وطائفةً من شعراء جيلِهِ: «من المحافظين على النهجِ التقليدي المحضْ، والتقليد المتوارث في طريقة النَّظم، وآثرَ الجزالة والقوة في التعبير»، ووافقه في ذلك الدكتور إبراهيم الفوزان، حين ذكرَ: « أنَّ الأنصاريَّ من أغنى أدبائنا إنتاجًا في النثر، ولكنه محافظٌ يميلُ إلى الالتزام».
أمَّا الدكتور حسن الهويمل، فقد عدَّ التزام الأنصاري ومحافظته؛ (وسطِيَّةً) ميَّزتْهُ وتُحمَدُ له، بقوله: « لقد واكبتْهُ شبيبةُ الحجاز في تفعيل الحركة الأدبية، ولكنه كان أكثرَ أنَاةً ووسَطيَّةً، فلم يستدْرِجهُ صلفُ (العواد)، ولم يجْرِفْهُ احتدام (شحاته)، ولم يستَهوِهِ اندفاع (ضياء). لقد كان رفاقُ دربِهِ أكثرَ اندفاعًا، في سبيلِ اللَّحاقِ بمشاهِدِ الأدب، وكان أكثرَ أنَاةً وتريُّثًا، ولعلَّ السَّببَ في ذلك، أنَّه كان أمْيَلَ إلى المعرفة، وهو أشدُّ ارتباطًا بالأدبِ الخالص».
والأنصاريُّ خرِّيجُ مدرسة المسجد النبوي الشريف، ومدرسة العلوم الشرعية، وتلميذ العلَّامة محمد الطيب الأنصاري. وفضاءُ الحقلين العلميين، في تلك المدة؛ كان منفتحًا يعوِّل على التأصيلِ في اكتساب المعرفة، وتحصيل العلوم، وكان رَحبًا واسعًا متنوعًا، ولم يكن يحجر على المنتسبين إليه؛ موردًا أدبيًا دون آخر، قديمًا كان أم حديثًا.
ومن شيوخ عبدالقدوس الأنصاري وسلفِهِ الأوَّلين من الشعراء، كما قدَّمنا، ومن جيله أيضًا؛ مَنْ كان ينزع إلى التجديد، وينحو إلى الأدب الحديث في أفكاره وتعبيراته، ولكن الأنصاري كانت له خياراته الخاصَّةِ، واعتمد المسار الذي وافق رؤيته، وفكره.
وعندما أُعلنَ مولدُ الأدب الحديث في الحجاز، بواسطة: (أدبُ الحِجَاز) الذي صدر عام 1344ه=1925م، و(المَعْرَضُ)، الذي صدر عام 1345ه=1926م، و(خَواطِرُ مُصرَّحَة)، الذي صدر أيضًا في عام 1345ه=1926م، وطارت البشائرُ بالمولودِ الجديد: الأدب الحديث؛ لم يرض الأنصاري أن يكون بمنأىً عن ذلك الزخم، بقيمته وأبعاده، فذهب يسجِّلُ شهادةَ ميلادِ أخرى؛ لأدبٍ حديثٍ في المدينة المنورة، يكون هو زعيمه.
ولكي يخرجَ من حَرَجِ العمومية في أحكامه، في تناوله قضية (الأدب الحديث)، عمدَ إلى الفصلِ بين حواضر الحجاز: مكة، والمدينة، وجدة، وروَّجَ لفكرةِ عُزلةِ المدينة المنورة، وانطوائها على نفسها، وهو ما اقتضي عُزلةَ أدبائها، عن رفاقهم في مكة وجدة، الأمرَ الذي لم يقبله محمد علي مغربي الذي عاش في تلك المدة، وساقَ حيثياتٍ موضوعيةٍ، تُسندُ رفضه لها، سنأتي عليها.
وكان الأنصاريُّ ينظرُ بعين الإعجابِ إلى الحِراك العلمي والثقافي في مكة المكرمة، حين قَدِمها بصحبةِ شيخهِ محمد الطيب الأنصاري؛ أوائل عام 1339ه=1920م، يقول: « كانت مكةُ المكرمةُ حين قدومنا إليها في أوائل سنة 1339ه، شِبه خليَّة نحل، نشاطٌ سياسيٌ بالغٌ، وفودٌ عربيةٌ تقدِمُ من الشام، وغير الشام إلى الملك حسين بن علي، مُهنِّئةً ورافِدةً ومُسترفِدةً، وقصائدُ تُلقَى بين يديه، ونشاطٌ علميٌ واسع النِّطاقِ في المسجد الحرام، وفي المدارسِ الأهليَّة القائمة: مدرسةُ الفلاحِ، المدرسةُ الصَّولتيةُ، المدرسةُ الفَخريةُ، وغيرها. وكان شبابُ مكةَ منهمكينَ في دراسة العلومِ والآداب، بكلِّ قُواهم وجِدِّهم واجتهادهم».
وإلى ذلك، فأسبابُ أدباء الحجاز، في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة؛ كانت متصلةً، ليس فيما بينها فحسب، بل بمصر وصحافتِها إبان فتوتها وتوهُّجها، وكانت ذاتَ رواجٍ بينهم، ومكانةٍ أثيرةٍ لديهم، وتأثيرٍ في تكوينهم الثقافي، واتجاهاتهم الفكرية والأدبية، كما ذكرَ الأنصاري فيما قدَّمنا إيراده من أقواله، وكما كان من أمرهِ عندما عَمِلَ مراسلًا لبعضها في المدينة المنورة، يذيعُ فيها أخبارَ الأدب، وينشر المقالات. وكما ذكرَ أيضًا الأستاذ عبدالله عبدالجبار، في سياق حديثه عن أثرِ الصحافة الأدبية المصرية، في تكوين أدباء الحجاز، بقوله: «ويجدرُ بنا ألا نُغفلَ عاملًا مهمًّا؛ هو أثرُ الصحافةِ المصريةِ عامةً، والأدبيِّةِ منها بصفةٍ خاصةٍ؛ فالمصريُّ، والبلاغُ، والمقطَّمُ، وغيرها، تحتلُّ في نفوس القُرَّاءِ أخصبَ مكانٍ، وهي تصلُ إليهم في اليوم التالي لصُدورها بمصر، بحكم سهولةِ المواصلاتِ الجويةِ وسرعتها..، فالمتأدِّبونَ في قلب الجزيرة العربيةِ؛ كانوا يقرأون السِّياسةَ الأسبوعية، والمُقتطَفَ، والهِلالَ -وبخاصةٍ في عُهودِها الأُولى- كما كانوا يلتهمون الثقافةَ، والرِّسالةَ، ويُتابعون باهتمامٍ بالغٍ المعاركَ الأدبيةَ التي نشبتْ بين الرافعي والعقاد، أو بين طه حسين وخصومه..، بل كانوا ينقسمونَ شِيَعًا وأحزابًا؛ هذا يُناصرُ العقاد، وهذا من مدرسة الرافعي، وذاك من مدرسة الزَّيات»، ومن ثَمَّ، فدعوى عُزلةِ المدينة المنورة وأدبائها، عن مكة وجدة وأدبائهما، وعن بدايات الحركة الثقافية فيهما، وما صدَرَ من كُتبٍ إبان تلك المدة؛ تحتاج كثيرًا من التثبُّتِ والتحقيق، ويَصعبُ التَّسليمُ بها، أو الاطمئنانُ إليها، في ظلِّ الوقائع التي شهد بها وسجَّلَها الأدباء آنذاك، ومن أبرزهم عبدالله عبدالجبار، كما في حديثه السابق، وكذا محمد علي مغربي، كما سيأتي.
وإذا كان ثمَّةَ عزلةٌ تراءتْ للأنصاري، فإنَّها لم تكن بالصورة التي ضخَّمَها، وأكَّدَ عليها غير مرةٍ، وممَّا يؤكِّدُ ذلك، ما ذكره في سياق حديثه الآنف، حول مَقدِمِهِ مكة المكرمة، عام 1339ه=1920م، ومشاهدته (شباب مكةَ منهمكينَ في دراسة العلومِ والآداب)، يقول: «ولستُ أدري وقتئذٍ؛ ما إذا كانت هذه الدراساتُ القوية المستميتَة الدائمَة، تحملُ في ثناياها طموحًا ولمحاتٍ، عن ممارسةِ أولئك الشُّبَّانِ للأدبِ القديم والحديث، ولكن علمتُ فيما بعد بحدوثِ ذلك فعلًا، فقد كانت تلك الدراساتُ هي المفتاحُ الأوَّلُ فعلًا للأدبِ الحديثِ في بلادنا»... يتبع