د.محمد بن عبدالرحمن البشر
منذ بداية التاريخ والبشر تسجل لنا المعاني، ومن المؤكد أنها متاحة بين الناس يتناقلونها، لكنها لم تسجل، أو أنها سجلت واندثرت ولم تصل إلينا، هذه المعاني سجلها الإنسان الذي عرف الكتابة والتدوين، وأبقاها لنا نقشاً على حجر، أو على أوراق الشجر، أو جلد غزال، أو جلود ماعز أو جمال، ومن سمع واطلع على ما كُتب عبر التاريخ يجد أن المعاني يتم تداولها، وربما يتم زيادة واحدة هنا أو هناك.
ولو عدنا إلى ذلك الوزير في عهد مينا أول حاكم لمصر، والذي جمع أصحاب تلك الأكواخ المتناثرة على ضفاف النيل تحت إمرته، وما ذكره ذلك الوزير حول حال من شاخ وكبر في العمر، فيتعبه القيام، ويتعبه القعود، أو وصاياه لابنه، وغير ذلك من المعاني الجميلة لوجدناها متداولة في عصرنا.
واستمر الإنسان عبر التاريخ في بقاع مختلفة من الأرض في تعريفنا نحن- اللاحقين- بما لديه من معان عميقة، وأفكار جيدة، وكان بعضها عميقاً، وقد أنارت لنا الكتب السماوية الحقيقية الطريق، وجاء رسول الهدى بالحق والسراط المستقيم.
وعلماء اليونان القدماء تعاملوا مع الطبيعة وعرفوا ما بها من قوانين ظاهرة وخفية، إلا لمن بحث واستقصى، ومن ذلك قانون الطفو، وقوانين إقليدس، وغيرها، كما ان فلاسفة اليونان قد أمعنوا في الكتابة عن المعاني والأفكار الاجتماعية والسياسة التي ليس بالضرورة ان تكون كلها صحيحة، ومثلهم في الصين كان كنفوشيوس، ولاو تزو مؤسس الطاوية، وغيرهم، وفي العالم العربي ابن سينا والفرابي وابن عربي، وابن رشد، وغيرهم، ومثلهم في الهند وفارس وأفريقيا وأوروبا.
النثر أو الشعر العربي حمل كثيراً من المعاني الموجودة في مجتمعه والسائدة فيه، وأيضاً نقل بعضاً من المعاني من بلاد أخرى، والإنسان هو الإنسان في كل مكان يثني على الخير ويمقت الشر، ولهذا فليس من الإنصاف أن يقلل من شأن شاعر ما لكونه نقل معنى كتبه فلاسفة اليونان، كما حاول المنتقدون للمتنبي تتبع تطابق المعاني مع غيره من فلاسفة اليونان، وكأنه سطو على مخرجاتهم العلمية، ثم انتقل النقاد لينقدوا توافق المعاني بين الشعراء العرب، فرأوا فلاناً قد أخذ المعنى من فلان، ووضعه في صيغة أخرى
مثل قول كثير عزة:
وكان على الفتى الإقدام فيها
وليس عليه ما جنت المنون
وقال المنقذون إنه أخذه من قول الأول:
عَلَى المَرْءِ أَنْ يَسْعَى لِمَا فِيهِ نَفْعُهُ
وَلَيسَ عَلَيهِ أَنْ يُسَاعِدَهُ الدَهْرُ
وقال الرفاء:
ضعفت معاقد خصره وعقوده
فكأن عقد الخصر عقد وفائه
أخذه من قول الآخر:
وأظن عقد وصالها لمحبها
أوهى وأضعف قوة من خصرها
وهكذا كانت المآخذ عند البعض، وقد ألف فيها الكثير من الكتب، ولو أننا توقفنا عن الأخذ بما قاله من سبقنا لم يقل أحد بيت شعر واحدا، لكن قد تستخدم مفردات حديثة مع التقدم العلمي كأن تصف سرعة شخص بالصاروخ أو الطائرة، أو نحو ذلك، أو شيء حلو المذاق بأنه شوكليت.