د. إبراهيم بن جلال فضلون
«الجمل ما بيشوف حردبته»، مثل شعبي وجد فرصته الذهبية للعودة إلى واجهة المشهد السياسي مع تصريحات متغطرس كوزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الذي قرر أن يتحدّث عن السعودية العُظمى، وكأنه يُريد كغيره أن ينال الشهرة على حساب قوتها، وهو لا يرى التحديات التي تكاد تكسر ظهر حكومته المُفلسة، حين يهاجم المتطرفون من يعيدون تشكيل الإقليم..
فالرجل، الذي لا يعرف من لُغة الاقتصاد إلا هيئة الجدران الإسمنتية والمُستوطنات والفوضى المعيشية من الخوف الداخلي لقوة العرب، أطلق عبارة تختصر غرورًا أعمى لا يرى التحول العميق الذي تعيشه المنطقة، ولا يدرك أن الصحراء التي يسخر منها تحولت إلى فضاء رقمي ومركز طاقة للعالم الحديث، في وصف نرجسي بتصريحه التاريخي قائلًا: «استمروا في ركوب الجمال في الصحراء»، متناسياً أنه يعيش في زمنٍ هلاك دولته، أو ربما في «كبسولة أيديولوجية» تمنعه من إدراك أن السعودية اليوم ليست تلك الصورة النمطية التي رسمها في خياله المتقوقع دينيًا وتشدده المتطرف، إنها دولة تقود التحولات الاقتصادية والثقافية العميقة، التي تمتد من رؤية 2030 إلى دورها في أسواق الطاقة العالمية، وتعيد صياغة علاقتها بالإقليم والعالم بمنطق الشراكة لا الخضوع.
من المفارقات أن هذا التصريح جاء في وقتٍ تسعى فيه إسرائيل – رسميًا – إلى ترميم صورتها بعد الكارثة التي زلزل أركانها وكشف زيف هالة القبة الحديدة وقوتها بالدعم الأمريكي والغربي المتهاوى، منذ أن فجّرها يوم 7 أكتوبر 2023. ومع ذلك، يصرّ أحد وزرائها على أن يضيف فصلًا جديدًا من التوتر إلى دفتر عزلة تل أبيب المتضخم.. ولكن في المقابل، كان الرد السعودي هادئًا إلى حد الإعجاز. فلم تنزلق حكمة الرياض إلى الرد بالمثل، بل مارست ما يمكن وصفه بـ»فن التجاهل الاستراتيجي»، تاركة الوزير المتطرف يواجه صدى كلماته وسط عاصفة من الانتقادات داخل بلاده قبل أن يراها بوسائل التواصل والفضاء الاليكتروني خارجيًا. فحين يتحدث يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، بالعربية ليقول: «سموتريتش لا يمثل إسرائيل»، فهذا بحد ذاته إعلان عن عمق المأزق الداخلي الإسرائيلي.
إن المملكة، مُنذ تأسيسها ولليوم، لم تكن يومًا دولة انفعالات؛ بل كانت دائمًا مركز ثقلٍ عقلانيّ في مُحيطٍ دولي واقليمي مُضطرب. لأن سياساتها الخارجية لا تُبنى على ردود الأفعال، بل على تقدير استراتيجي للمصالح العربية والإسلامية.
فبينما تدار العواصف حولها بالاندفاع والغضب، تكتفي السعودية بضبط إيقاع الريح، وتعرف متى تصمت لتجعل الآخرين يسمعون، وبما يحفظ لها مكانتها كصوتٍ رشيد وسط ضجيجٍ عالميٍّ لا يعرف الاتزان.. كما تُدرك أن دولة الاحتلال تعيش في لحظة اضطراب داخلي غير مسبوقة، وأن ما يصدر من أصوات اليمين المتطرف ليس إلا انعكاسًا لحالة العجز والإنكار التي تعيشها تل أبيب بعد سنوات من الغرور السياسي.
وكأن إسرائيل تعيش أزمة هوية مُتفاقمة، تتخبط بين غرور القوة وخوف الزوال، وتتصرف كالحبارى اللعوب التي فقدت بوصلته العاطفية والسياسية معًا. لتقترب من الآخرين حين تحتاجهم، وتنقلب عليهم حين يشعرها وجودهم بصغر حجمها الحقيقي. تلوّح بشعارات السلام في العلن، وتغرس خناجرها في الظل، فتبدو ككيانٍ مأزومٍ يلهث خلف استقرارٍ لا يستطيع الإمساك به.
كلّ يومٍ تُعلن انتصارًا مزيفاً جديدًا، لكنها في الظلام الداخلي لها تُمارس هزيمة مُؤجلة؛ دولة تتجادل مع نفسها أكثر مما تتحدث مع جيرانها، وتعيش على حافة «جرف هار فانهار» أي انفجارٍ نفسيٍّ وسياسيٍّ دائم، كمن يحاول إخفاء ارتباكه خلف ابتسامةٍ مصطنعة.
وكلما تعثّر الإقليم، ازداد اليمين الإسرائيلي توحشًا. وكلما استعاد العرب تماسكهم، تذكّر الإسرائيليون أن بقاؤهم لا يقوم على الحديد والنار وحدهما، بل على علاقات متزنة مع جيرانهم..
أما سموتريتش، فقد أراد أن يبدو «رجل مبادئ»، ليكشف لسانه هشاشة مشروعه، لأن السلام الذي يُبنى على الإهانة لا يُكتب له البقاء.. فهل تعلم كسابقيه من حكمة السعودية: أن القوة لا تعني الصراخ، وأن السيادة لا تُقاس بعدد المستوطنات، بل بقدرة الدولة على الحفاظ على استقرارها الداخلي واحترامها في الخارج. فهل قادت إسرائيل يوماً تحالفات اقتصادية كبرى، وسعت لإعادة رسم خرائط النفوذ في الخليج والشرق الأوسط بجدية واقعية بلا حروب، بينما لا تزال تعيش في دائرة الشك والتهديد الدائم.
في نهاية المطاف: يظل المثل الشعبي هو أصدق تعليق على المشهد: «الجمل ما بيشوف حردبته وقع وانفكت رقبتو».. وسموتريتش لم يرَ حردبته بعد، لكن العالم يراها واضحة كجدارٍ يفصل إسرائيل عن السلام الحقيقي، قادرة على تعرية الزيف بضحكةٍ ذكية، كما يمكن أن تطيح بالهيبة بجملةٍ قاسية.