منال الحصيني
سأقصي الفلسفة الوجودية وآراء العلماء والباحثين فيها وسأحصر ذلك من خلال زاوية الحياة كتجربة يومية نعيشها، فالحديث عن «العبث» أو ما يُسمى بالتصرف العشوائي لا يكتمل إلا حينما نراه جلياً لنواظرنا في تقاسيم وجوه البشر فالكتب والفلسفات قد لا تقربنا من فهم تلك التجربة بواقعيتها البسيطة على الرغم من أنها تعطينا جل جوهر الفكرة.
فلو تخيلنا إنساناً منظماً في حياته يستيقظ في نفس الوقت ويذهب للعمل ذاته ويعود في الوقت نفسه ويمارس روتينه المعتاد ثم ينام. الأمور تسير وفق ما يحب دون أي أخطاء ومع ذلك قد يشعر وكأن شيئاً ما ينقصه، شعور غامض أشبه ما يكون بنداء صامت رغم أن حياته تسير بشكل مرتب كخطة محبوكة لكنه في لحظة طارئة وعفوية قرر السفر أو الذهاب بلا وجهة على غير سابق عهده وفقاً لنظام حياته المجدول.
هذا التصرف الذي لا يحمل فائدة مادية ولا منطقية وربما لا يوجد له تبريراً في العقل ولكنه يحمل شعوراً صادقاً، حيث لا هدف واضحاً ولا حتى نتيجة محددة.
هنا يكون التوقف عن السعي تجاه الفائدة والسماح للنفس أن تكون «هي» ولا سواها بقرار السفر هنا لم يحقق إنجازاً ولم ينتج مالاً لكنها تشعرك في هذه اللحظة «العبثية» أنك تعيش شيئاً حقيقياً يرجعك إلى ذاتك ربما إلى طفولتك الأولى عندما كان اللعب أصدق أنماط الحياة في تلك اللحظة يتحرك الإنسان خارج قيود العقل دون غاية أو منفعة بشكل «عبثي» لكنه حقيقي يضفي على التجربة الإنسانية الكثير من المتعة التي قد تقتلها جدية المنطق.
من الجميل أن يكون للإنسان لحظات عبثية يخرج بها عن المألوف يفسح له جانباً من حياته بعيداً عن المنطق والروتين فكثيراً ما نحتاج إلى مساحة وليس لغاية نتحرك فيها دون قيود نتذكر فيها أننا لسنا آلات تعمل وفق جداول ولكننا بشر نتقلب بين رغبات وعواطف ولكن «العبث» أو التصرف العشوائي ليس دائماً ملاذاً آمناً إن حولناه من مساحة آمنة إلى لحظات ضياع.
فالعبث والقرارات العشوائية تبدو رائعة إن جعلناها استراحة قصيرة نأخذها من جدية الحياة بالهروب منها لحظات وربما ساعات أو أياماً نسمح لأنفسنا بها أن نحتضن اللحظة ونسمع لصوت الحياة ونتنفس صمت العالم من حولنا نطلق العنان لأرواحنا، ولكن وجب الحذر من التمادي بالعبث في الحياة فهو أشبه بالنار التي نوقدها فإن اقتربنا لها باعتدال سنتلذذ بالدفء وأن دنونا أكثر من اللازم سنحترق.
فلكي نخفف من ضغوط الحياة وروتينها نحتاج لذلك العبث ليستعيد جزءاً من عفويتنا دون استسلام تام له فهو في نهاية الأمر شعور يترجم إلى سلوك جراء فعل خارجي نتج عن تصرف عشوائي فقد يفقدنا بوصلتنا إن لم نعِ حدوده كل ما علينا أن نحسن الموازنة بين الغموض والنظام وبين العبث والعقل فأحدهما يوقظ فينا شعور الحياة والآخر يمدنا بالثبات.