أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
عند وصول الفرد إلى هذه المرحلة الحساسة من الصراع مع الثقافة المرقمنة وحوسبة المثاقفة لابد له أن يراجع حساباته كي يتأكد من خلال تلك المراجعة بأنه لم يقع في براثن إدمان مقيت لأنماط مثاقفية مرقمنة محوسبة برمجياً.
كما يجب التأكد من خلال تلك المراجعة أن الثقافة المرقمنة التي استحوذت على وجدان ذلك الفرد لم تبلغ مبلغها الأعظم الذي قد يُعطِّل تحديدا عمق مدركاته بسوانح أعراض إدمانه المحتمل لها من ناحية وِحدَّة تداعيات المخاطر الممكنة لذلك الإدمان من ناحية أخرى.
وتعد هذه المراجعات في رأيي الطريق الوحيد الواعي الذي يحد مبكرا من التأثيرات المحتملة لسلبيات الثقافة المرقمنة على هوية الفرد بشكل قد يتعارض ربما في نهاية المطاف مع سمو الأصول الفكرية الفطرية والمكتسبة لتلك الهوية وحدود زمكنتها العرفية المحلية وشموخ الذات المعتبرة عرفا في الآن نفسه.
عند هذه المرحلة من المقال لا بد لي من التوقف قليلا للتنويه بأن مراجعة متأنية لبعض مقولات الفلاسفة والمنظرين ونتائج دراسات الجدوى ذات العلاقة بردود الأفعال المجتمعية والنفسية تؤكد ما رميت إليه آنفا في الجزء الأول لهذا المقال، بل وتتقاطع معه في عدة مجالات معرفية من مجالات «رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة».
فتعد الثقافة المرقمنة نظرياً وعملياَ حسب تلك المقولات نسيجا حيّا متجددا غير جامدٍ آخذا في التضاعف أُسَّياَ مع الزمن عبر العصر الرقمى الحديث. ولعله من نافلة القول التأكيد هنا على أن هذا المسار الأسي للثقافة المرقمنة وما يتبعها من مثاقفات محوسبة قد حطم، حسب المقولات التنظيرية المعاصرة، ولازال يحطم تقنياً وبشكل كاسح كما ذكرت آنفاً حواجز المثاقفات التقليدية وقيود المنظور الثقافي الذي ساد عبر الزمن.
كما تشير النظريات ذات العلاقة والوقائع العولمية المشاهدة والمقيسة على حد سواء أن الآخر الذي كان يعد في السابق بعيدًا جغرافيًا أو لغويًا، صار اليوم قريباً بل عنصراً ثقافياً مرقمناً حاضراً في كل حين على مختلف شاشات الفضائيات والحواسيب ووسائل التواصل الاجتماعي.
وهذا أمر يؤكد في الحقيقة قوة ارتباط الثقافة المقروءة والمسموعة والمرئية المرقمنة مباشرة بشبكة عالمية عابرة للزمان والمكان على الصعيدين الثقافي والمثاقفي المرقمنيين المؤثرين في بنية الهوية والذات سلبا وإيجاباَ سواءً بسواء، وفقاً لطبيعة التعامل مع ذلك الارتباط وطريقته.
ولذا لابد عند هذه المرحلة الحساسة من المثاقفات البينية المرقمنة بذل جهد مدروس لفلترة ما يعرض من تلك المثاقفات عبر الشاشات أو ما يقرأ منها أو يسمع، فليس كل ما يُعرض اليوم في الأوعية المرئية والمقروءة والمسموعة المبهرجة هو في حقيقة الأمر ثقافة حقيقية بل قد يكون ذلك المعروض صخبا محوسباً أو كياناً مثاقفياً مفبركاً رقمياً أو تزييفا مقصودا أو إشاعات حاقدة مغرضة أو انتحالاً أدبياً وعلمياً ومالياً متعديا ممجوجا أو ترويجا لفكر ساقط مرفوض أو سلوكا صارخا ممقوتا أو تهما كيدية تسيء إلى سمعة الأفراد والمجتمعات وسيادة الأوطان وما شابه ذلك وانضاف اليه.
ولذا لابد من واجب المثقف الأمين تنقيح كل الغث المحوسب المعروض في مختلف الوسائط قبل تطبيعه زمكانياً وإعطائه في نهاية المطاف مصداقية المعني شكلا ومضمونا في الفضاء الرقمي الحديث المترامي الأطراف غير المنظور في غالب الأحيان.
إن الحد من السلبيات آنفة الذكر يكمن إذن في ضرورة فلترة المثقف لما يشاهده ويقرأه ويسمعه من مثاقفات محوسبة أو يجنيه من ثقافات مرقمنة. وقد تستدعي هذه الفلترة في أحايين عديدة ضرورة إعادة تعريف حوسبة المثاقفة ومراجعة خرائط الطرق التي تؤدي إلى تحقيق أمثل الفرص المتعلقة بانتقاء الرموز والأفكار الثقافية المرقمنة ومجالات المثاقفة المحوسبة المتدفقة العابرة لحدود الهويات وشموخ الذوات.
ولا شك أن لذلك العبور المثاقفي القسري لسمو حدود الهويات وشموخ الذوات مؤشراته، فقد نجد في بعض نواحي العالم من يمزج مثلا بين هويته الأصلية وهويته الافتراضية فيلبس الزي التقليدي في حياته اليومية، لكنه يعبّر عن نفسه بالرموز الكونية وال” ميمز” على الإنترنت.
كما ان هناك مؤشرات أخرى لعبور الثقافة المرقمنة حدود الهويات ومواطن شموخ الذوات منها على سبيل المثال لا الحصر أن يعيش فرد ما بهويات متعددة فهو “تقليدي” مثلا في أسرته، و»عالمي” على شبكات التواصل، و»مهني” في بيئة العمل الرقمية. ومن المؤشرات الصارخة كذلك أن نجد من يمزج الرموز التقليدية كاللغة واللباس والأمثال بالرموز الرقمية مثل الإيموجي والهاشتاغ مشكلا نتيجة لذلك هوية هجينة ممقوتة شكلا ومضمونا.
وعلى أية حال تعد المرونة في هذا الأمر مطلبا ضروريا، فالهوية بكل تأكيد ليست حصونا منيعة بل كيانات حية تتفاعل باستمرار مع مستجدات «رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة» وتستوعب إيجابيات فضاءات بنيتها الداخلية التي تتمحور حولها قيم الهويات ومواطن شموخ الذوات. وتعد عمليات إنتاج الثقافة بدلاً من استهلاكها مطلباً تكتيكيا مهما يُمكّنُ المثقف المعاصر مثلا من استخدام المنصات الرقمية لإنتاج محتوى ثقافي مرقمن يعكس هويته وثقافته في شتي المجالات الكونية والإنسانية دون أن يتنازل عن قيم هويته وشموخه الذاتي.
على الرغم من سلبيات رقمنة الثقافة وحوسبة مثاقفاتها المشار إليها آنفا إلا أن لهما إيجابيات جمة، فهي قد قربت البعيد بالقريب وحلقت بهما في مختلف آفاق الحياة والكون فحطمت قيد زمكانهما ويسرت لهما سبر أغوار المجهول ورسخت من أجلهما أفاق المعلوم وطوت بينهما بعد المسافات.
كما دفعت بمرامي الأقوال إلى مواطن الأفعال واختزلت زمن الإنجاز وبلورت فرص الإبداع وسجلت أزكى مقامات العقل البشري وأنبل العطاءات المعرفية وأسماها بل وأذكاها إبداعا وتألقا. لذا فعلى المستخدم لهذا النمط من الثقافة استثمار الجوانب الإيجابية الواعية المُرَشَّدَةِ الفاعلة غير المتعدية الموصلة للأهداف والمقاصد النبيلة التي تتحقق بها الشروط وتنتفي الموانع. فإن تحققت تلك الشروط وانتفت موانعها فقد تحققت المقاصد النبيلة وتحققت تبعا لذلك «رقمنة ثقافية وحوسبة مثاقفية» لا تشوبهما الأخطار التي تهدد هويات مستقبليها وشموخ ذواتهم. بل قد يكون تطبيع هذا النمط المثاقفي الإيجابي من الرقمنة فرصة استراتيجية يستفاد منها في تحقيق الطموحات والغايات في عالم يضج اليوم بانفجار المعلومات وسرعة الإنجاز وابداع العطاء ودقته. بل قد تكون هذه الرقمنة فرصة سانحة لإعادة تقديمنا لها للعالم منقحة بطريقة أمثل عبر الانتقال، كما أشرت سابقاً، من مرحلة استهلاك الثقافة إلى مواطن إنتاجها. ولذلك بدلًا من الاكتفاء بمهاجمة «رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة» وسرد سلبياتهما فحسب كما يفعل البعض فإنه بإمكاننا تحوير أية ثقافة محلية من ثقافاتنا المزدهرة تاريخيا وانثروبولوجيا إلى قيم نوعية ونظم مثاقفية عالمية مرقمنة مضافة منافسة لنظائرها من ثقافات الآخر ومثاقفاته المحوسبة دون أن يترتب على ذلك التحوير المثاقفي مساس بسمو الهويات وشموخ الذوات.