د. ناهد باشطح
فاصلة:
«الرأي العام يتكون من الصور في أذهاننا»
-والتر ليبمان-
* * *
اليوم وسط طوفان الرقمية المعلوماتية، قد تتحول لقطة قصيرة لا تتجاوز ثواني إلى «خبر دولي» حتى وإن لم تكن اللقطة صحيحة!.
هذا ما حدث حين انتشر مقطع للرئيس الأمريكي ترامب في زيارته للرياض مايو 2025 وهو لا يشرب القهوة مرفقًا بادعاء أن «قناة العربية» استخدمت الذكاء الاصطناعي لتعديل المشهد وإظهار ترامب وكأنه تذوّق القهوة، في «محاولة لتجميل البروتوكول الدبلوماسي»، كما زعم ناشرو الخبر.
بدأتُ في التحقّق لثقتي بمصداقية قناة العربية وبالفعل اتضح لي أن أساس التضليل تغريدة نشرها حساب NEXTA من بولندا؛ فاللقطة لم تُعدَّل، لكن انتشار لقطة أن ترامب ممسك بالفنجال وتعديل قناة سعودية للفيديو كشف عن خطورة أن يتحول تفصيل ثقافي بسيط، كرفع فنجان القهوة، إلى مادة للتأويل السياسي.
لم تكن القصة عن القهوة بل عن الرموز وكيف يعيد الإعلام والجمهور قراءتها وفق انحيازاتهم وثقافاتهم.
المشهد الأصلي بسيط: ترامب يقدَّم له فنجان القهوة العربية، بعض الفيديوهات صورته وهو يشربها وأخرى وهو يضع الفنجال على الطاولة، لكن العناوين التي نشرتها بعض الصحف والتعليقات التي نشرتها مواقع التواصل الاجتماعي هي المضللة:
«ترامب يرفض القهوة السعودية!»
«رسالة سياسية من ترامب إلى الرياض!»
«تبدّل العلاقات، حتى القهوة لم تعد تُشرب!»
هكذا تحوّل سلوك بروتوكولي بسيط لم يحدث إلى رسالة رمزية ملفّقة. وهنا يظهر أثر «الانحياز التأكيدي» (confirmation bias): كل طرف فسّر الفيديو بما يناسب قناعاته المسبقة تجاه ترامب أو السعودية
نعود لحساب NEXTA على منصة X، والذي نشر صورتين لترامب مع القهوة يوم 14 مايو 2025 قائلاً: «What an embarrassment! A Saudi TV channel edited Trump»s video using AI to smooth out his manners.»
أي: يا للحرج! قناة سعودية عدّلت فيديو ترامب باستخدام الذكاء الاصطناعي لتجميل تصرفاته.
وفي تحليل للتغريدة لفت نظري صور مكتوب عليها تعليق بلغة فارسية تظهر مقارنة بين «نسخة مزعومة من قناة العربية» و»النسخة الأصلية»، مكتوب عليه نص فارسي: «ويديو جعلى توليد شده با هوش مصنوعى» أي (فيديو مزيف تم إنتاجه بالذكاء الاصطناعي) ثم عندما بحثت أكثر وجدت صحيفة الاندبندنت البريطانية تتبنى التضليل بشكل غير مباشر حيث نشرت صورة لترامب وهو يضع فنجال القهوة على حجره في عنوان قائلة: Donald Trump refuses to drink coffee during Saudi Arabia ceremony
(دونالد ترامب يرفض شرب القهوة خلال حفل استقبال ملكي في السعودية)
إذن فالأساس في التضليل كان من الإعلام الإيراني لكن صحفا ومواقع إليكترونية مثل: France 24 - Truth or Fake نشرت في اليوم التالي (15 مايو) أن لا دليل على استخدام الذكاء الاصطناعي من قناة العربية، وأن الفيديوين من زوايا مختلفة، لا من تزييف رقمي.
لماذا كان مهماً هل شرب ترامب القهوة أم لا؟ لأن فيها زاوية رمزية وسوسيولوجية، والصحافة الغربية تحب هذا النوع، لكن ما أهمية أن نكتب عن خبر مثل: هل شرب ترامب القهوة السعودية في اجتماعه مع ولي العهد محمد بن سلمان أم لا؟
أولاً: لتأكيد دور الصحافة في التحقق من الحقيقة (Fact-checking).
ثانياً: لكشف آلية بناء الصورة الإعلامية، فمن التفاصيل الصغيرة «شرب القهوة» تم صناعة رمزية سياسية.
ثالثاً: لتوضيح أن «الخطأ البصري» يصنع سردية زائفة.
رابعاً: للتأكيد على أن الإعلام الجديد بات يُعيد تشكيل الواقع، والصحافة التقليدية تُعيد تصحيحه.
الفيديو المنتشر عن عدم شرب ترامب للقهوة لا يحتوي على معلومات ملفّقة، لكنه ينتمي إلى فئة الأخبار المضلّلة بالتأويل، أي التي تأخذ مشهدًا وتُحمّله معنى لم يقصده صاحبه.
إن التضليل اليوم لا يصنع الأكاذيب فقط، بل يصنع المعاني الزائفة من أحداث لم يعد مهماً أن تكون حقيقية أو مفبركة.
المصادر
- https://x.com/nexta_tv/status/1922602394698887617-
- https://www.the-independent.com/tv/news/trump-saudi-arabia-coffee-b2751006.html
- https://www.france24.com/en/tv-shows/truth-or-fake/20250515-no-saudi-tv-did-not-cover-up-trump-s-coffee-snub-using-ai