سلمان بن محمد العُمري
هناك ذكريات جميلة مازالت عالقة في الذاكرة أذكرها وأذكر أهلها بكل خير، وهناك مواقف وصور سلبية أحمد اللّه سبحانه وتعالى ثم أتفكر في أصحابها وما بدر منهم بحق أنفسهم وحق غيرهم بل أقرب الناس إليهم، وليس أسوأ من الصور السلبية المتعلقة بعقوق الوالدين والتقصير في حقهما، وقد وعيت منذ الصغر على حالات من صور العقوق لدى البعض كلما ذكرتها أصابتني حسرة وحزن على الموقف وعلى صاحبه الذي حرم من الخير، وربما طاله العقاب ما لم تتداركه رحمة الله سبحانه وتعالى، ومن الصور العجيبة أنك تسـمع عن تميز فلانٍ من الناس في علاقته مع زملائه وحسن إدارته وتفوقه العلمي والعملي، ولكنه في مؤخرة الركب بعلاقته بوالديه جفاء وغلظة وهجرًا وقطيعة.
وأعجب العجب أن بعض الصور التي وقفت عليها في مسألة عقوق الوالدين أن الأب أو الأم لم يقصرا في
«الدلال الزائد» لهذا الابن، فأغدقا عليه بالعطاء وبسطا له أكف الراحة في مرحلة التعليم والشباب، ووفرا له المأكل والمشرب والمسكن المريح والسيارة الفارهة، ولما اشتد عوده واستغنى عنهما قلب لهما ظهر المجن ولم يلتفت إليهما وأصبحا يسمعان بخبر حله وترحاله وإقامته وسفره من الناس، وأصبحت زيارته لهما قد تتعدى الشهر، في حين أنه يواصل مع أرحامه وخلانه وأصحابه الزيارات المتواصلة، ولو احتاج والداه أو أحدهما لمراجعة المستشفى أو قضاء أمرٍ لازم أو حاجة مادية لتولّى عنهما وأعرض بجانبه وكأنه لم يسمع بل ولم يعتذر!
لقد نهى الله سبحانه وتعالى عن عقوق الوالدين وأمر ببرهما وحذر من كل قول أو عمل لا يرضيهما حتى ورد النهي عن التأفف (فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ)، وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوَاْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا)، فجاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين مقرونًا بسوء الشرك وما ذلك إلا لعظم الأمر، وقال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل مَن يا رسول اللّه قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)، ولم يصلِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رجل كان غير بار بوالدته وعاقًا بها، وقال رسول اللّه: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين).
وليس أقبح ولا أشنع من صورة الجفاء للابن العاق والابنة العاقة الذين لا يصلون آباءهم ولا يحسنون إليهم وربما زادوا في الإساءة مع الهجر والقطيعة في الإساءة إليهم قولاً وعملاً، فهؤلاء قد انعدمت لديهم المروءة والوفاء وكل خلق جميل، ولم يبق لديهم سوى اللؤم والجفاء والعياذ بالله، ونسأل اللّه العافية. فكم أم وأب قبض الله أرواحهم وهم بين يدي الخادمة أو السائق ولم يعلم أبناؤهم بالوفاة إلا من سائق أو خادمة لأنهم قد انقطعوا عن آبائهم، وأمهاتهم في ساعات الشدة والمحنة والعوز والحاجة.
لقد كان الأب والأم يحرصان على أن يشتريا لابنهما في العيد الجديد وكسوته وإسعاده وإدخال البهجة عليه، ثم حين كبر أصبح يقضي العيد مع أبنائه يمنة ويسرة، بعيداً عن والديه ولربما اكتفى بالهاتف والمعايدة الهاتفية، وكم من رجل أتعب والديه في صغره وحملاه للمستشفيات في أواخر الليل وفي عز الظهيرة وفي البرد القارس، ثم لما احتاجا إليه في مرضهما لم يصحبهما للعلاج، وكم من أب حرم نفسه من ملذات الدنيا وقدم راحة ابنه على نفسه، فاشترى له السيارة الجيدة واكتفى هو بالسيارة القديمة ولما احتاج إليه الأب ليوصله ويذهب به تولى عنه هذا الابن العاق.
والدنيا كما يقولون لازالت بخير ولله الحمد فإننا نرى ونعلم من الحالات الجيدة والمثالية ما يفوق هذه التصرفات الشاذة من الأبناء الذين يعقون والديهم، وكم رأينا مثلاً في مكة المكرمة من يحمل أمه أو أباه على ظهره يطوف بهما ويسعى ويرفض حملهما على عربة، وكم سمعنا وقرأنا عمَن تنازل عن إحدى كليتيه لأبيه أو لأمه، بل زد على هذا. لقد سمعنا عمن قام بقضاء دَينْ صاحب والده من باب البر بأبيه، ومن تكفَّل بشراء منزل لعمه أو لخاله براً بوالديه. وهكذا من الصور الطيبة التي لا تقف عند حد ولا موقف ولا باب من أبواب الإحسان سواء بالزيارة أو التواصل أو البذل والعطاء.
لقد تناسى الغافلون من قاطعي الرحم ومن العاقين قول المصطفى - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم -: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، ونسوا الفضل وأبواب الخير وأن الجنة تحت أقدام الأمهات وأن برَّ الأم طريق إلى الجنة، ونسوا ما بذله الوالدان من معروف وما أمرنا به في كتاب الله: (وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، ونسوا أن البر والصلة دين فإذا وصل الرحم نال الأجر من الله سبحانه وتعالى أولاً، وسلم من الدين الذي عليه لوالديه لأن البر سلف، فمن أحسن لوالديه أحسن إليه أبناؤه، وقد روي في القصص أن رجلاً كبيراً في السن رأى ولداً يعتدي على والده في السوق وتعجب الحاضرون من هذا التصرف، فانبرى الرجل الكبير في السن للحضور، وقال: لقد رأيت هذا المضروب عندما كان شابًا يافعًا يفعل بأبيه مثل ما فعل هذا الولد وقد قضى دين جده من أبيه (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
خاتمة:
فواعجباً لمن غذوت طفلاً
ألقنه بأطراف البنــان
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشـتدَّ سـاعده رمـاني
وكم علمته نظم القوافـي
فلما قال قافية هجانـي