د.نادية هناوي
لم يحظ مذهب أدبي بالاهتمام وكان له دوره في تطوير النظرية الأدبية مثل المذهب الواقعي، وإلى اليوم لم يستقر هذا المذهب على رؤية نقدية محددة يمكن من خلالها وضع تعريف جامع مانع للواقعية كمفهوم معقد وغامض من جانب، وواضح ومتاح بكل يسر من جانب آخر.
وهذا ما يجعل الواقعية ملائمة لأي تحول إبداعي بوصفها فنا لصيقا بعالم الأدب عامة وعالم السرد خاصة، وإذا كانت الواقعية بهذه الدرجة من التأثير في ابتكار الجديد وإثبات العبقرية، فإن الرواية الواقعية ستغدو هي الرهان في تأكيد تميز الكاتب فنيا وتاريخيا. والتميز يعني الاختلاف في قراءة أعماله وكلما كان الاختلاف حادا، كان في ذلك الدليل على تميزه، ولكن متى تكون واقعية الرواية مدعاة للتجديد ؟
إن التجديد في كتابة الرواية الواقعية لا يعني الغموض والشطح عن التقاليد في تصوير الواقع، وإنما التجديد يكمن في اكتشاف طرق تغيير هذا الواقع، ولا يكون هذا الاكتشاف متاحا ما لم تكن الحقيقة في عملية التغيير تلك هي المطلب والمنتهى. والروائي العبقري هو الذي يبحث في الواقع عن الحياة، وفي الحياة عن النفس البشرية.
وهذا ما فعله وبحث فيه المجددون الواقعيون مثل بورخس وكافكا والان روب غرييه ونابكوف وماركيز وغيرهم. وهو نفسه ما بحث الفلاسفة عنه محاولين بلوغ حقيقة الوجود والحياة. والروائي مثل الفيلسوف معنيٌّ بمعرفة حركة الحياة. هذه المعرفة التي تتطلب منه أن يكون موئلا لكل العلوم يأخذ من كل علم بطرف، يقف عند التاريخ والاجتماع والميثولوجيا والطب والهندسة والسياسة وغيرها من أجل الإحاطة بالواقع، جاعلا من النفس البشرية مشروعا يختبر فيه آراءه وموضوعا يجسد فيه قدراته. وبذلك تكون أطراف معادلة التجديد محددة باثنين: الواقع والإنسان.
وعلى وفق هذه المعادلة تتكون صور الواقعية، ويخطئ من يتصور أنها تعود إلى زمن نشوء المذهب الواقعي في القرن التاسع عشر، بل هي تمتد إلى جذر قديم قدم الإنسان هو اللاواقعية التي عليها أقامت الواقعية عمادها ونمت تفرعاتها شيئا فشيئا.
ولقد قعدت النظرية الأرسطية أبعاد الواقع وحددته بمحددات الحبكة والزمان والمكان. ولم تخرج النظريات الحديثة مبدئيا عن تلك التحديدات، وإنما هي زادت عليها بمخرجات وتخريجات هي بمثابة أساليب ومهمات، وُضِعت لها مسميات بعينها. فكان أن تنوعت الواقعية فمن النقدية والاشتراكية إلى الطبيعية والسوداوية. وظهر في القرنين التاسع عشر والعشرين كتّاب امتلكوا قوانينهم الخاصة في الكتابة، فكانت واقعية دوستويفسكي خيالية، وواقعية كافكا غرائبية، وواقعية بورخس فنتازية، وواقعية ماركيز سحرية، وواقعية اراغون نشوئية، وواقعية روب غرييه جديدة، وبهذا الشكل تتجدد الواقعية ومعها يتجدد النظر إلى الواقع.
هذا على مستوى التجريب الروائي، أما على مستوى النقد الروائي، فان له أيضا ابتكاراته التجديدية في مجال دراسة الواقع والواقعية على خلفية ما حققه السرد الروائي من تجريب، ويقف جورج لوكاش في مقدمة النقاد الغربيين ويليه برسي لوبوك وفورستر وادوين موير وايان واط وغيرهم غير أن الاهتمام بالواقع تضاءل بشكل ملحوظ مع ظهور المدارس الشكلية والأسلوبية ثم أهمل النقاد البنيويون الواقع، موجهين عنايتهم نحو البنية، متناسين أن للواقعية في عالم التجريب الروائي مكانة أثيرة، وأن أغلب التجديدات التي شهدتها الرواية هي منبثقة من الواقع وعائدة إليه بغض النظر عن طبيعة الانبثاق وشكل العود. وهذا ليس بالغريب، فالواقع هو مبتغى الأدب، وإذا بلغ الكاتب مراده من الواقع فذلك يعني أنه صنع لنفسه عالما خاصا وجعل لأدبه مقاييس تنطبق عليه وحده.
وهذه هي العبقرية التي بها يضيف الأديب جديدا إلى ما أضافه العباقرة قبله من دون أن تقلل هذه الإضافة بأي حال من الأحوال من منجزاتهم كما يقول بوريس بورسوف صاحب أطروحة (الواقعية اليوم وأبدا). ومفاد هذه الأطروحة أن الواقعية من السعة في التجديد ما يجعل أي تحديد لأبعادها مستحيلا، وأخذ بورسوف على البنيويين خطاطاتهم الرياضية وقوانينهم الأدبية، مؤكدا أن( الفن بحد ذاته هو دائما شيء ما، فالفن كالحياة يمكن التعرف عليه ولكن لا يمكن معرفته حتى النهاية أبدا) ولا يعني هذا أن بورسوف ينحاز إلى وجهة نظر سياقية، وإنما هو يرى أن الواقعية نظيرة التخييل، فغوغول حين كتب رواية( النفوس الميتة) كان واقعيا مع أن أبطاله( بأشكالهم المباشرة لم يكونوا موجودين ضمن الأحياء آنذاك وهم لا يوجدون ضمن الأحياء اليوم. ومع هذا فهم موجودون في كل مكان) ولأن الواقعية هي التخييل، فإن لا مجال لأن نجادل في أبعاد الواقع. ولهذا فضّل بورسوف المودنيزم على الديكادانس، فالأول يتجاوز الواقعية ويرتقي فوقها في حين يتخلص الثاني من سيطرة الواقع فيتجاوز حدوده ويخلق قوانين مختلفة لهذا الواقع.
ومثاله على الديكادانس بلخانوف الذي حدد جوانب فهمه لمبادئ الفن الواقعي انطلاقا من ظرو ف عصره. وعلى الرغم مما قدمه بوروسوف للنظرية الواقعية من تطوير، فانه في تمثيلاته على السرد الروائي لم يذهب إلى أبعد من دوستويفيسكي مع دفاع متطرف عنه وعن الحركات التحررية الروسية. ويدل على ذلك ما قاله في ختام دراسته المهمة:( لم يكن تشيخوف متمما لتقاليد الرواية الكلاسيكية في ظروفها التاريخية الجديدة فلقد عبَّدت قصصه الطريق لرواية من طراز جديد، لاعبة بذلك الدور نفسه الذي لعبته الرواية من قبل. ومن الصعب أن نتصور وجود رواية غوركي بدون قصة تشيخوف ونعني تلك الرواية التي يقف في مركزها أشخاص عاديون ربطوا مصيرهم بالحركة الفكرية الهائلة للعصر)، ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن بورسوف في دراسته للواقعية -شأنه شأن النقاد الغربيين- اهتم بحاضر الرواية ومستقبلها فلم يرَ لها تاريخا سرديا فيه أصول أو جذور تتعدى حدود العصر الحديث أو حدود الأدبين اليوناني والروماني، وتجاهل بشكل شبه تام المرويات التراثية العربية. ليس ذلك حسب، بل قلل من أهمية المؤلفات الأدبية والثقافية التي عُرفت في العصور الوسطى.
إن التشديد على ضرورة تتبع التاريخ السردي يأتي من أهمية ما مرّ بهذا التاريخ من مراحل وتحولات لاسيما في العصور الوسطى التي فيها قُعّدت تقاليد السرد القديم فتحددت أنماط كتابته، بدءا بالخبر والحكاية وصولا إلى أنواع سردية محددة. وما كان للتقاليد أن تتقعد إلا وهناك قاعدة، عليها تنبني تفرعات تمتد ثم تترسخ فيستقر بنيانها. وهذه القاعدة هي اللاواقعية التي تشكلت على خلفية ما كان في العصور القديمة من حكايات خرافية وأساطير، فكان التخييل مشتملا على ما هو ما واقعي وغير واقعي.