د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يقصد بالفعل الرباعي ما جاء على أربعة أحرف، وهو نوعان: أحدهما رباعي الجذور، نحو: دحرج وطمأن، وزلزل، والآخر ثلاثي الجذور مزيد بحرف، نحو: أكرم وأحسن، وجالس وجلّس.
والأصل في التعجب إنما يكون من الفعل المجرد الثلاثي الجذور، قال ابن يعيش «اعلم أن سيبويه يجيز بناء (أَفْعَلَ) من كل فعل ثلاثي قياسًا، نحو: (ما أكرمَ زيدًا!) من (كرُم) و(ما أضربَ محمّدًا!) من (ضرَب)، و(ما أعلم جعفرًا!) من (علِم)» (1).
أما الرباعي الجذور فلا يُتعجب منه فلا يقال (ما أفعله) قال المبرد «وَاعْلَم أَن مَا جَاوز الثَّلَاثَة بِغَيْر زِيَادَة لم يجز أَن يُقَال فِيهِ مَا أَفعلهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّك إِن بنيته هَذَا الْبناء حذفت من الأَصْل حرفًا وَهَذَا مِمَّا لَا يجوز؛ لِأَن مَعْنَاهُ إِنَّمَا كمل بِحُرُوفِهِ إِذْ كُنَّ كُلهنَّ أصول» (2).
أما الثلاثي المزيد بهمزة فاختلف النحويون فيه؛ فمنهم مانع ومنهم مجيز، قال السيرافي «والذي يذكره كثير من النحويين أن ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف فليس الباب أن يُتعجب به، وجعلوا قولهم ما أعطاه وما أولاه على غير قياس»(3). وأمّا سيبويه ومن وافقه فجعله مثل الثلاثي، قال « وبناؤه أبدًا من فَعَلَ وَفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ» (4). قال السيرافي «وظاهر كلام سيبويه يدل على أن التعجب بما فعله (أفعل) كثير مستمر، وأنه لم يستعمل فيه هذا الحرف على طريق الاستغناء بالشيء عن الشيء كما قالوا: ما أكثر قائلته، ولم يقولوا: (ما أقْيله) وإن كان الفعل منه (قال يقيل)، وهذا مما استدل به بعض النحويين أن سيبويه يرى الباب في (أفعل يُفعِل) مما يجوز فيه التعجب ويستمر، وأنه تحذف منه الهمزة الأصلية، وتلحق همزة التعجب» (5). وأورد السيرافي أمثلة أخرى، قال «ومثله مما جاء فيه التعجب وفعله على (أفعل) قولك: ما أيسرَ زيدًا، وهو من (أيسر يوسر)، وما أعدمَه وهو مُعدِم في معنى الإعدام الفقر، والفعل منه (أعدم يُعدم)، وما أسنَّه، وقد أسنَّ وهو مسنٌّ، وما أوحشَ الدارَ، وقد أوحشت وهي موحشة، وما أمتعَه، وقد أمتع وهو ممتع، وما أسرفَه وقد أسرف وهو مسرف، وما أفرطَ جهلَه، وهو مفرط» (6).
أما الأخفش والمبرد فاختلفت الحكاية عنهما؛ فمن النحويين من نسب إليهما المنع، ومنهم من نسب إليهما الجواز، فمن الناسبين المنع إليهما أبوجعفر النحاس (338ه)، قال «قال الأخفش سعيد: وإنما لم يُقَلْ ما أعماه؛ لأن الأصل في فعله اعْمَيَّ واعْمايَّ، ولا يُتَعَجَّب مما جاوز الثلاثةَ إلّا (7) بزيادة» (8). وكذا ابن خروف (609ه) في شرحه الكتاب، أفادني حبيبُنا د. سامي بن محمد الفقيه أنّه اطّلع على مخطوطٍ قال فيه ابن خروف إنّ المبرد تابع الأخفش الذي قال إنَّ العرب قالوا منه في حروفٍ قليلةٍ في (أفْعَلَ) لا يُقاس عليها. وقال ابن خروف: فهذا نصّ عن الأخفش أنَّه غير مقيس، وكذا نسبه أبو حيّان (745ه) قال «فإن كان المزيد على وزن أفعل فثلاثة مذاهب: أحدها: أنه لا يجوز البناء للتعجب منه مطلقًا، وهو مذهب أبي الحسن، والجرمي، والمازني، والمبرد(9)، وابن السراج (10)، والفارسي في الأغفال (11)»(12). ومثله ابن عقيل (13).
فأما من نسب إليهما الجواز مطلقًا فابن يعيش (643ه) إذ ذكر أنّ أبا الحسن الأخفش يجيز بناء (أفعل) «من كلّ فعل ثلاثيّ لحقته زوائد قلّت أو كثُرت، كـ(اسْتَفْعَل)، و(افْتَعَلَ)، و(انْفَعَلَ)؛ لأن أصلها ثلاثة أحرف. قال: وإنّما قالوا: (ما أعطاه للمال، وأولاه للخير)؛ لأنّه ثلاثي الأصل، وهذا المعنى موجود في (انطلق)، ونحوه ممّا فيه زيادة، وتابَعَه أبو العبّاس المبرّد. وهو فاسد»(14). ومثله الرضي (686ه) نسب إليهما الإطلاق في موضعين من شرح الكافية (15)، وأورد أبو حيّان وابن عقيل حكاية الجواز أيضًا عن الأخفش (16).
وبيّن ابن يعيش الفرق بين ما زيد بهمزة وما زيد بغيرها، قال «وذلك من قِبَل أنّ ما في أوّله همزة يجوز استعمالُه بغير همزة، ثمّ تدخل الهمزة للنقل وغيره، نحوَ قول امرئ القيس [من الطويل]:
921 - وتَعْطُو برَخصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنّه ... أسارِيعُ ظَبْيٍ أو مَساوِيكُ إسْحِل
وإذا كان أصله أن يستعمل بغير همزة، وإنّما الهمزة داخلة عليه، فجاز أن يُعتقد عدمُ دخولها، وتُقدّر الهمزة محذوفة غيرَ موجودة، وليس كذلك (استخرج)، و(انطلق)، فإن الكلمة منهما صيغت على هذا البناء، فافترق أمرُهما»(17).
وتفرّد ابن عصفور(669ه) في التفرقة بين ما جاء على (أفعل) فقال «وإن كان على وزن أفعل ولم تكن همزته للتعدية جاز التعجب منه، نحو قولهم: ما أخطأه وما أصوبه وما أنتنه وما أظلّه وما أضوأه، ولم يقولوا: ما أجوبه، استغناء عن ذلك بقولهم ما أحسن جوابه؛ وإن كانت للتعدية لم يجز التعجب منه إلّا أن يشذ من ذلك فيحفظ ولا يقاس عليه، والذي شذّ من ذلك قولهم ما أعطاه للدنانير وما أولاه للمعروف وما أضيعه للشيء» (18). ونسب ابن عصفور هذا المذهب لسيبويه (19). وتوقف ابن مالك (672ه) في قول ابن عصفور، قال «ولا فرق بين ما كانت همزته للتعدية كأعطى وبين ما همزته لغير التعدية كأغفى. وشهد بأن هذا مذهب سيبويه قوله في باب التعجب المترجم بهذا باب ما يعمل عمل الفعل ولم يجر مجرى الفعل ولم يتمكن تمكنه. وبناؤه أبدًا من فَعَل وفَعِل وفَعُل وأفْعَل. هذا نصه. فسوّى بين الثلاثة في صحة بناء التعجب منها. وأطلق القول بأفعل فعُلم بأنه لا فرق بين ما همزته للتعدية وبين ما همزته لغير التعدية كما فعل ابن عصفور؛ إذ أجاز القياس على ما أغفى زيدًا، لأن همزته غير معدية، ولم يقس على ما أعطاه لأن همزته معدية وهو تحكّم بلا دليل»(20). وقال أبوحيّان «قال ابن الحاج: هذا التفصيل الذي فصّله يعني ابن عصفور شيء لم يذهب إليه أحد، ولا ذهب إليه نحوي» (21).
ومن يذهب إلى التعجب من الثلاثي المزيد بهمزة يستثني ما دلّ على لون أو خلقة حقيقة لا مجازًا، قال سيبويه «وذلك ما كان أفعل وكان لونًا أو خلقةً. ألا ترى أنك لا تقول: ما أحمره ولا ما أبيضه. ولا تقول في الأعرج: ما أعرجه، ولا في الأعشى: ما أعشاه. إنما تقول: ما أشد حمرته، وما أشد عشاه» (22).
وبيّن المبرد علّة ترك التعجب من أفعال الألوان والخلق، قال «وَإِنَّمَا امْتنع هَذَا لشيئين: أَحدهمَا أَنّ أصل فعله أَن يكون افْعَلَّ وافعالَّ، نَحْو احْمَرَّ واحمارَّ، وَدخُول الْهمزَة على هَذَا محَال، وَالْقَوْل الآخر قَول الْخَلِيل وَهُوَ أَن هَذَا شَيْء قد ثَبت وَاسْتقر؛ فَلَيْسَ يجوز فِيهِ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان» (23). ولابن مالك قول آخر، قال «وعندي تعليل آخر أسهل منه، وهو أن يقال لما كان بناء الوصف من هذا النوع على (أفعل) لم يُبنَ منه أفعل تفضيل لئلّا يلتبس أحدهما بالآخر، فلما امتنع صوغ أفعل التفضيل امتنع صوغ فعل التعجب لتساويهما وزنًا ومعنًى، وجريانهما مجرًى واحدًا في أمور كثيرة. وهذا الاعتبار هيّن بيّن، ورجحانه متعين» (24). وإن خرج شيء من ذلك إلى المجاز جاز، قال المبرد «فَإِن قَالَ قَائِل فقد جَاءَ فِي الْقُرْآن (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [72- الإسراء]، قيل لَهُ فِي هَذَا جوابان كِلَاهُمَا مقنع؛ أَحدهمَا أَن يكون من عمى الْقلب، وَإِلَيْهِ ينْسب أَكثر الضلال؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَته كَمَا قَالَ (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَار وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [46- الفتح] فعلى هَذَا تَقول مَا أعماه كَمَا تَقول مَا أحمقه، وَالْوَجْه الآخر أَن يكون من عمى الْعين فَيكون (فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى) لَا تُرِيدُ بِهِ (أعمى من كَذَا)؛ وَلكنه فِي الْآخِرَة أعمى كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ فِي الْآخِرَة أضلّ سَبِيلا» (25).
الخلاصة، إذن، لا يُتعجب إلا من الثلاثي أو مزيده بهمزة غير دالٍّ على لون أو خِلقة حقيقة.
**__**__**__**__**
(1) شرح المفصل لابن يعيش، 4/ 122.
(2) المقتضب للمبرد، 4/ 180.
(3) شرح كتاب سيبويه للسيرافي، 4/ 474.
(4) الكتاب لسيبويه، 1/ 73.
(5) شرح كتاب سيبويه للسيرافي، 4/ 474.
(6) شرح كتاب سيبويه للسيرافي، 4/ 474.
(7) هكذا في المطبوع ولعل (إلّا) مقحمة.
(8) معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، تحقيق زهير غازي زاهد، 2/ 435.
(9) المقتضب للمبرد، 4/ 178.
(10) الأصول في النحو لابن السراج، 1/ 103.
(11) لم أجده في الأغفال حسب فهرسة المحقق. ولكنه في الإيضاح العضدي، ص: 92، 93.
(12) ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 4/ 2078.
(13) المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، 2/ 164.
(14) شرح المفصل لابن يعيش، 4/ 123.
(15) شرح الكافية للرضي، 3/ 451، 4/ 230.
(16) انظر: ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 4/ 2078. المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، 2/ 164.
(17) شرح المفصل لابن يعيش، 4/ 123.
(18) المقرب لابن عصفور، ص74.
(19) شرح المقرب لابن عصفور، تحقيق زينب محمد عبدالله الهويج، رسالة دكتوراه، جامعة المنصورة/ مصر، ص 529.
(20) شرح التسهيل لابن مالك، 3/ 46-47.
(21) ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 4/ 2078.
(22) الكتاب لسيبويه، 4/ 97.
(23) المقتضب للمبرد، 4/ 181- 182.
(24) شرح التسهيل لابن مالك، 3/ 45.
(25) المقتضب للمبرد، 4/ 182.