د.محمد الدبيسي
..وفي افتتاحيته أوَّلَ أعداد المنهل، التي أفصحَ فيها عن سياسة المجلة وأهدافها، وتطلُّعِهِ لأنْ تكون (فاتحةَ خيرٍ للأدبِ الحجازي)، يقول: «والحقُّ أنَّ هذا الأدبَ الحجازيِّ الحديثِ، وإن كان وليدَ أعوامٍ معدودةٍ؛ فإنَّه قد خطا إلى الأمامِ خطواتٍ مُباركةً، تدُلُّ على ما بعدها». وذلك (الأدب الحجازي الحديث) الذي أشار إليه، هو الذي شكَّلَ جوهر كتابه، الذي نحن بصدده، وعليه أمَّلَ الأنصاريُّ: «أنْ يكون سِجلَّا صادقًا ودقيقًا لتاريخ هذا الأدب، منذ رأى النورَ حتى الآن، وربما تحقَّقَ فيه ذلك لأنَّ مؤلِّفَه أحدُ الأفرادِ الذين أسهموا في بناءِ كيان هذا الأدب، منذ كان جنينًا إلى أنْ استوى مراهقًا فشابًا.. فيما بعد.
أحدُ اثنين أسهما في يفاعته بجهودهما، وبممارستهما الفعلية، في بناء قِبابِ هذا الأدب في المدينة المنورة..، أمَّا الرجلُ الأوَّلُ الذي وضع أوَّلَ لبنةٍ في بناء هذا الأدب الحديث في المدينة؛ فقد كان الصديق المرحوم السيد عبيد بن عبدالله مدني، فإليه يعود الفضلُ الأوَّل بعد الله، في وضعِ الخُططِ الأُولى لميلاد أدبنا الحديث في المدينة».
والكتابُ (سجلٌّ صادقٌ) في جميع ما وسِعه وحواه، حاشا دعوى احتكار التبشير بالأدب الحديث، والقيام على تأسيسه بالمدينة المنورة. ثمَّ إنَّنا لا نعلمُ ما هي (الجُهودُ والممَارساتُ الفعليَّةُ) التي قام بها (الرجلُ الأوَّلُ: عبيد مدني)، فيما ادَّعاه له الأنصاري..؟، الذي كان (ثاني الاثنين)، كما سيأتي.
ولا نعلمُ ماهي (الخُططُ الأُولى، التي وضعها عبيد مدني؛ لميلادِ الأدبِ الحديث) ؟، وقد تكرَّرَت لفظتا: (الأوَّل والأُولى)، في هذا الجزء من حديث الأنصاري، في كتابه، الذي ربما كان كما أمَّلَ صاحبُهُ: (سِجلَّا صادقًا) فيما قدَّرَهُ الأنصاريُّ، واعتَقَدَ صَوابَهُ، غير أنَّه لم يكن (دقيقًا) في سياق هذه الدعوى المُرسلة، التي أتى فيها بالأعاجيب؛ حيث يقول في سياقِ حديثهِ الآنفِ عن عبيد مدني: «وقد كان رحمه الله أوَّلَ من تعلَّقَتْ رغبته في التغيير..تغييرُ المنهج الأدبي القديم، إلى شيءٍ جديدٍ يُعبِّرُ عن مبادئ اليقظة، والإصلاح والتنظيم للحياة الاجتماعية، والحياة الفكرية، والاقتصادية والعلمية، وبذلك كان أوَّلَ الرُّوادِ في هذا الميدان، وهي كلمةُ حقٍّ أعتقد أنَّها أمانةٌ في عنقي»؛ فعبيد مدني في نظرِ الأنصاري: (أوَّلُ من تعلَّقت رغبتُهُ في تغيير المنهج، وأوَّلُ الرُّواد في ميدان اليقظة، والإصلاح والتنظيم للحياة الاجتماعية)...الخ.
فهل يُعقل أنَّ شاعرًا التزمَ النَّهج التقليدي في كتابة القصيدة، في مبناه ومعناه، ومؤرخًا له باعٌ جيِّدٌ في البحث والتحقيق التاريخي؛ قام بكلِّ ما ذكره صديقه وادَّعاه له..!
ثمَّ ماهي مظاهر (الإصلاح والتنظيم للحياة الفكرية..) الخ، التي قام بها في كلِّ تلك الشؤون التي ذكرها الأنصاري..؟.
فعبيد مدني أديبٌ وشاعرٌ ذو مكانةٍ كبيرة بين أبناء جيله، وله عنايةٌ أكيدةٌ بعلِمِ التاريخ، وله فيه مباحثَ قيِّمةٌ وأصيلةٌ نشرها في المنهل، وفي غيرها من المجلات العلمية، وقد شهد له الشيخ حمد الجاسر بذلك، ووصفه بــــ(العلَّامة مؤرِّخ طَيْبَة)، وذلك في تقديمه لكتاب (رسائل في تاريخ المدينة)، الذي أصدرته دار اليمامة عام 1392ه=1972م. وتُظهرُ مقالات عبيد مدني المبثوثة في بعض تلك الصحف والمجلات؛ عمقَ اطِّلاعه على تاريخ المدينة المنورة، وسَعة إلمامه به، ووعيه بمراحله، وقراءته جُلَّ المؤلَّفَات التي كُتبت فيه، وتُبرِزُ دقَّتَهُ العلمية وتحوُّطَه المنهجي، في إيراد المعلومات والحوادث والتَّعليق عليها ، وله أيضًا مباحث أدبية ونقدية رصينة، بثَّها في بعض المجلات الأدبية، وفي بعض الملتقيات العلمية في ذلك الحين. ومنها مشاركته في المؤتمرِ الأوَّلِ للأُدباءِ السُّعوديين، الذي نظَّمتْه جامعة الملك عبدالعزيز، في مكة المكرمة، عام 1394هـ =1974م، ببحثٍ بعنوان: (شُعراءُ المَدينةِ والشِّعرُ الملحَمِي في القَرنِ الثاني عشر الهجري)، ولكن صنيعه الأدبيَّ والشعريَّ بالتحديد؛ لا يبلغُ به المبلغَ الذي ادَّعاه له صاحبه، الذي أسرفَ على نفسه، وعلى صديقه، بادعَّاء أوَّليةٍ لا يُنقصُ عدم استحقاقهما لها، من قَدْرِ اسهامهما المشهود والمهم، في الحركة الثقافية في بلادنا، ولا سيما الأنصاريُّ نفسه، الذي استطرد كثيرًا في حديثه عن تلك الأوَّلِية، والرِّيادة المزعومة، وسأعرض بعض شواهدها النَّصيةِ تباعًا من كتابه: (أدبنا الحديث كيف نشأ وكيف تطور)، وأُشيرُ إلى رقم الصفحة هنا، في المتن، ثم أُناقشُ مضامينها بعد ذلك، يقول الأنصاريُّ:
- «وإذا أردنا أن نُحدِّدَ سنةَ ميلادَ هذا الوليد الجديد، فبوسعنا أن نقول: إنَّه كان في سنة 1338هـ= 1919م، وقد ظهرتْ البذورُ المزروعةُ للأدبِ الحديثِ في المدينة المنورة، في وقتٍ عصيبٍ» (ص 11).
- اختلف مرَّةً الأديبانِ الصَّديقانِ: عبيد، وعبدالقدوس، في قضيةٍ أدبيةٍ، وتعصَّبَ كلٌّ منهما لرأيه، فتجافيا وتبادلا الصُّدودَ، فأنشأ عبيد مدني بيتينِ وأرسلهما لصديقه، وهما قوله:
صديقي إلامَ الهَجرُ فالهجرُ باهِظُ
أمالَكَ من صَوتِ الموَّدَةِ واعِـظُ؟
فإنْ تَكُ قد ضَيَّعتَ وُدِّي فإنَّنِي
لودِّكَ مادامَ الجديدانِ حافِظُ
(ص 13).
وقد علَّق الأنصاريُّ على هذين البيتين، بقوله: «وإذ ذكرتُ البيتين؛ فلأنَّهما يدلَّان على نُضجٍ مُبكرٍ للصديق السيد عبيد مدني، في عالمِ الشعرِ الحديثِ، المطعَّم بجواهرِ الشعرِ القديم» (ص 13-14).
- «ولست بمغرِّبٍ في القَولِ ولا مُبالغٍ فيه، إذا قلتُ إنَّه على يديْ هذين الشَّابين عبيد مدني، وعبدالقدوس الأنصاري؛ كانت نواةُ ميلادِ الأدبِ الحديثِ في المدينة المنورة، قبل أيِّ ناشئٍ آخرَ من زملائهما» (ص 14).
- «ومما يجدرُ ذكرُهُ أنَّ الزميلينِ وحدَهُما وفي سريةٍ تامةٍ؛ كانا يتدراسانِ كُتُبَ الأدبِ الحديثِ في نثره وشعره، وكانا حَذِرَينِ أشدَّ الحذر، من أن يطلِّعَ أحدٌ ما من أصدقائهما، أو معارفهما على قيامهما بهذا التَّدارس، وكنَّا حَرِيصينِ على كُتُبِ الفكرِ الحديثِ، ومما أذكرهُ من هذه الكُتُب، دائرة معارف فريد وجدي، وكُتُب المنفلوطي: النَّظرات، وماجدولين، وسيرانو دي برجراك» (ص 14).
- «وكنَّا وحدنا نقومُ بإخراجِ ما كنَّا نخفيه من كُتُبنا الأدبيةِ الحديثة، التي نزمعُ تفهُّمَها وترسُّمَها فيما نُنشئهُ من شعرٍ ونثرٍ، ونأخذها ونقرأ منها ما يروقُ لنا، ونتذاكرُ ما أشكلَ علينا من الأهدافِ والمغازي والمعاني الغامضةِ، ومن هذه الكلماتِ قولهم: النَّزعةُ الفكريَّةُ لدى فلانٍ/ وفلانٌ مُستهترٌ/ هذا الأمرُ يَسُودُ/بالرَّغمِ من كذا؛ فقد حَدَثَ كذا/ الاستعمار/ في هذا الظرف/ مِخلبُ القِطِّ/ ينبثق..، إلى عباراتٍ حديثةٍ كثيرةٍ لم نألَفْها في أدبنا القديم، الذي كنَّا دَرَسْناه وفَهِمْنَاه»، (ص 15).
- «وجديرٌ بالذكرِ أنَّ متابعةَ هضمَ مثل هذه التعابيرِ العصريَّةِ، كان يأخذُ منَّا جهدًا متواصلًا وتفكيرًا مرهقًا..، حتى أوفينا على الغَايةِ فيما بعد، بحمدِ الله كُنَّا أساتذة أنفسنا»، (ص 15).
- «ولقد كنَّا أساتذةَ أنفسنا، في تفهُّمِ أساليبِ هذا الأدبِ الطارئِ الجديد، فقد أدركنا أنَّ أساليبَهُ تختلفُ عن الأدبِ العربيِّ القديمِ، بما طُعِّمَ به من تعابيرٍ وأفكارٍ تمتُّ إلى العربِ بصلةٍ قوية»، (ص 16).
- « ومن الحقِّ أنْ أقول: أنَّ نُضجَ السيد عبيد مدني، ونبوغَهُ في الأدبِ الحديثِ شعرًا ونثرًا؛ كان مثارَ إعجابي وتقديري، كان المُجَلِّي وكنتُ بعده أسيرُ الهويني، والسيد عبيد في نظرِ الواقعِ بالنسبة لأدبِ المدينةِ الحديثِ، هو الرَّائدُ الأوَّلُ، وكنتُ بعده مباشرةً»، (ص 17).
- «وقد رأيتُ أن أنشرَ هذا الكتيِّبِ أوَّلَ أثر ظهر، الذي يعتبرُ القاعدةُ الأُولى للتأليفِ عن الحركةِ الأدبيةِ الحديثةِ في المدينة»، (ص 28).
- «وسنة 1338هـ، هي السنةُ التي وُضعتْ فيها البذورُ الأُولى للحركةِ الأدبيةِ العصريةِ في المدينة، من قِبَلِ كاتبِ هذه السُّطورِ، والسيد عبيد مدني، وحدهما»، (ص 32).
وفي مُجمَلِ هذه المقاطع النصيَّة ومُفَصَّلِها من متنِ كتابه، يتضحُ ماكان عبدالقدوس الأنصاري يراه، من ولادة الأدب الحديث في المدينة، على يديه هو، وعبيد مدني، وهي القضيةُ المتحقِّقةُ لديه بتجليَّاتها يقينًا، تؤكِّده أقواله السابقة، وفي ذلك نظر:
فماهيَّةُ الأدبِ الحديثِ وجوهرُهُ في نظر الأنصاريِّ، وكما يبدو في حديثه هذا، هو الإنتاجُ الأدبيُّ الذي كُتِبَ في تلك المدة، التي بدأ فيها الكتابةَ هو وجيله، ومنهم عبيد مدني، وغيره من الأدباء، لأنَّ الأنصاريَّ دعا كتابه: (أول أثرٍ ظهر: أدبُنا الحَديثُ كيفَ نَشأَ وكيفَ تَطوَّر): أدبًا حديثًا، بل هو (القاعدةُ الأُولى للأدبِ الحديث)، ودعا روايته (التوأمان): «أولَ ثمار أدب البلاد العربية السعودية الحديث»، وأمَّا التواريخ التي ذكرها، فيشوبُها عدم الدقة، ففي المقاطع النصيَّة السابقةِ من حديثه، نجده ذكرَ في أوَّلها: (أنَّ عام 1338هـ=1919م، هو العام الذي شهد ميلاد الأدب الحديث).
وفي آخر هذه المقاطع، ذكر: (أنَّ عام 1338هــ=1919م، هو العامُ الذي وُضعتْ فيه البذورُ الأُولى للحركة الأدبية العصرية)، وكان ذكرَ في الكتاب نفسه، كما مرَّ بنا: (أنَّ سنة 1342هــ=1923م، هي التي وُضعتْ فيها بُذورُ الأدب)..!، ونجده اعتنى عنايةً دقيقةً في تبيان مراحل الأدب الحديث: (بذورًا، وبراعمَ، وثمارًا)؛ ومن ثمَّ فتحديدُ التواريخ لديه فيه كثيرٌ من اللَّبسِ والتناقض.
ثم نجده أيضًا يناقضُ حديثَهُ هذا حول زعامةِ الأدب الحديث، بقوله: «وللتاريخِ والحقيقةِ نذكرُ أنَّ مجالسَ الشيخ عمر البري، والشيخ عمر الكردي، والشيخ أبي بكر الداغستاني، والسيد عبيد مدني، في منازلهم بأرجاء المدينة؛ كانت من أحفلِ المجالس بالغذاء الأدبي العربي، وكانت من أمتعها، ولاسيما إذا حضرها الشيخ إبراهيم الخربوطي رحمه الله، وكان مجلس الشيخ عبدالجليل برَّادَة، والسيد أحمد برزنجي، والشيخ إبراهيم الأُسكوبي..؛ عامرةً بهذا الطرازِ من المعرفةِ الرَّافدةِ الوضيئة..، وهي في واقعها بمثابةِ القاعدة لمن يريدُ أن يُشيَّدَ أبراجًا شامخةً من الأدب الحديث»، فهو يستدعي هنا، مجالسَ أدبيةٍ يعود تاريخ بعضها، إلى ما قبل ولادته بقرنٍ من الزمن تقريبًا، ويعدُّها (قاعدةً للأدب الحديث)، وكان قد وصفَ عصر الشاعر إبراهيم الأُسكوبي (ت1331هـ=1913م)، بــ(عصر البعث)، بقوله: «ثم بدأ عصرُ البعثِ العربيِّ، في أعقاب حرب الدولة العثمانية مع إيطاليا، فكانت بلادُ العرب تموجُ بحركاتِ الاستنكار لالتواءات الرجل المريض، كما تموجُ بحركاتِ اليقظةِ والشُّعور بالذاتيِّةِ، ونفخَ شعراؤها في أبواقِ التبشير بتفتُّح الوعي العربي، وبانطلاقه من القيودِ والسدود».
وأمَّا شيخُ الأُسكوبي وأستاذُه، العالم والأديب المدني ذائع الصيت، الأفندي عبدالجليل برَّادَة (ت1327هـ=1909م)، فقد دبَّجَ فيه الأنصاريُّ مقالةً مطوَّلةً، أشادَ فيها بمكانته العلمية، وبتجربته الشعرية (الحديثة)، ومنها قوله: «المرحومُ الشيخُ عبدالجليل برَّادَة المدني، ذلك الشاعرُ الذي أعتبرُهُ أبا الشعرِ الحديثِ في الحجاز، وإنْ لم يدر هو، ولا معاصروه بذلك».
وكان للبرَّادِة – كما ذكر الدكتور إبراهيم الفوزان، في كتابه: (الأدب الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد)- اتصالٌ بمفكري عصره ومثقَّفِيهِ وأدبائهِ، ينمُّ عن بعض مظاهره؛ «إعجابه بالمؤلَّفَاتِ المصرية الحديثة، وبلغ إعجابه أنْ قرَّظَ كتاب (عَلَمُ الدِّين) للأديب المصري علي باشا مبارك، أحدُ رُوَّاد النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومؤسِّسُ دار الكتب المصرية،»، وكان عبدالجليل برَّادَة؛ عالِمًا واسعَ الاطلاعِ، متعدِّدَ المشارِب المعرفيةِ، وشاعرًا مُجيدًا، ونحا بشعره نحو التجديد في الموضوعات والأساليب، وهو كما ذكر الأنصاري وأكَّد، يعدُّ رائدًا من روَّاد الشعر الحديث، بحسب فَهمِ الأنصاري جوهرَ ذلك التحديث وتجليَّاتِه، وكان ذا أثرٍ فاعلٍ في الحياة الثقافية والأدبية بالمدينة المنورة، في أواخر القرن (الثالث عشر) الهجري، وبدايات القرن (الرابع عشر). وسار على نهجه تلميذُهُ العالمُ والأديبُ إبراهيم الأُسكوبي؛ في النزوع نحو التجديد، المغاير لظروف عصره وأحواله الثقافية، والمعبِّر عن تطلُّعه للارتقاء بها بواسطة شعرِهِ.
وقد اتَّخذَ الدكتور إبراهيم الفوزان، وصفَ عبدالقدوس الأنصاري نفسه، حين وصف صنيع هذين الأديبين بـ(بمدرسة البعث الأدبي في الحجاز)، وساقَ في هذا المبحث من كتابه: (الأدَب الحِجَازي الحَدِيث بين التقليدِ والتجدِيد)، ما يدلُّ على انفتاح الأُسكوبي على معطياتِ عصرِهِ وأفكارِهِ، يقول الفوزان: «ولم يكن اتصالُ البعثِ الحجازيِّ بأدباءِ مصر فقط، بل أُعجِبُوا بأدباءِ الشام، ومن ذلك مادارَ بين إبراهيم الأُسكوبي الأديب المدني، وسليمان البستاني مترجم الإلياذة، فقد كانت بينهما صداقةٌ أدبيةٌ؛ دفعتْ بالبستانيِّ أن يُهدِي إلى الأُسكوبي الإلياذة، بعد تعريبها في أواخر القرن التاسع عشر»، وكان لاتصالِ البرَّادَة والأُسكوبي، وجيلهما، بالأدباءِ والمثقفين العرب، من جُلِّ الأقطارِ -الذين يأتون للحجِّ والزيارة- دورٌ في تعزيزِ ثقافتِهِم الأدبية، وتنويعِ معارفِهِم، إلى جانبِ اطْلاعهِم على المؤلَّفَاتِ الأدبيةِ، والمجلات الثقافية العصرية، التي كانت تُصدرُها حواضرُ الثقافةِ العربيةِ آنذاك، وكانت تصلُهُم، وكانت أسبابُها متصلةً بهم، كما ذكر الأنصاريُّ سابقًا.
وعلى آثارِ البرَّادَةِ والأُسكوبي؛ نجدُ العالِمَ والشاعرَ المدنيَّ محمد أحمد العُمَرِي (ت1365هـ =1945م)، الذي كان ممن عُنيَ الأنصاريُّ بترجمتهم، واستعرضَ نماذج من شعره وعلَّقَ عليها، ورأى فيها سماتٍ فنيةٍ أشادَ بها، وعدَّهُ من رُوَّادِ الشعر الحديث، وكان العُمَري من العلماء الأدباء، الذين تَلمَذَ عليهم عبيد مدني، واحتفظ في مكتبته بنسخةٍ مخطوطةٍ من شعر أستاذِه، وخَطَّ فيه مقالةً أشاد فيها بعلْمِه وشاعريتٍه، ونشرها في صحيفة صوت الحجاز.
وكان للعُمَرِي موقفٌ أثناء الأحداث السياسية التي مرَّت بالمدينة المنورة بعامةٍ، ومن الثورةِ العربيةِ بخاصةٍ، عندما عرَّضَ بشعره بالقبائل العربية التي ساندتها، وكان صريحًا في موقفه الرافضِ للثورة، وعندما انتصرتْ صمتَ واعتزلَ الحياة العامة.
وقد تناولَ الباحثُ المدنيُّ الأستاذ عبدالرحيم أبو بكر، في كتابه: (الشِّعرُ الحَديثُ في الحِجَاز 1916-1948م) شعرَ العُمَري ومستواه الفني، وأشاد به، بقوله: «إنَّ شاعرَنا العُمَري بهذه النماذج القليلة؛ يكشفُ لنا عن موهبةٍ شاعريةٍ دفَّاقة، واتجاهٍ جديدٍ بين معاصريه من الشعراء، فإذا كان الأُسكوبي رائدًا بين معاصريه لفنِّ الشعر السياسي، والاهتمام بقضيةِ المصير؛ فإنَّ العُمَريَّ يبدو حقيقًا بأنَّه كان الشاعرَ القويَّ ذا المكانةِ المرموقةِ في هذا الاتجاه، وبخاصةٍ من ناحيةِ المضامين الجديدة التي طَرقَها، وتميَّزَتْ بها قصائده، وكان بهذا التَّميُّزِ في الفنِّ الشعري؛ خير مَعْبَرٍ للشعر المعاصر في الحجاز إلى النهضة»، وقد خَلَصَ أبو بكرٍ إلى رأيه هذا؛ بعد قراءته الواعية العميقة لشعرِ العُمَري، وتدبُّرِ مضامينه، وتحليل أنماطه الفنية، كما استشهدَ بما كتبه عبدالقدوس الأنصاري، حول العُمَري، حين عدَّهُ من (أعلامِ الأدبِ في جزيرةِ العرب)، وقال: «إنَّه يُشبهُ في شعرهِ سامي البارودي، في جَزالةِ الألفَاظِ وتدفُّقِ المعاني، وعُروبةِ البيانِ، وبثِّ الشَّكوى والأشجانِ، والمُساهمةِ في حوادثِ الأكوان» .
ثم إنَّ الأنصاريَّ فيما بعدُ، وقبلَ (ولادة الجزء الثاني)، من كتابه (أوَّل أثرٍ ظهر) عام 1398هــ =1978م، كان يعدُّ محمد سرور الصبَّان (ت1392هـ =1972م)؛ الرائدَ الأَوَّلَ للأدبِ الحديث، يقول:» والصبَّانُ بكتابيهِ: أدب الحجاز، والمَعْرَض، وبتشجيعه الماديِّ والأدبيِّ للأدباء، وبمكتبته التي فتحها بمكة لناشئةِ الأدب، يُعتبرُ الرَّائدُ الأوَّلُ لحركةِ الأدبِ الحديثِ في البلاد»، كما جاء في مقالٍ له في المنهل، في عدد رجب/ 1386هـ= نوفمبر/1966م،
بل إنَّ الأنصاريَّ يصفُ شاعرًا مدنيًا من شعراء القرن (الحادي عشر) الهجري، بأنَّه: «شاعرٌ عبقريٌّ تزعَّمَ حركةَ التجديدِ الشعري في هذه البلاد المقدسَّة، في القرن الحادي عشر الهجري»، وهو الشاعر فتحُ الله بن النَّحاس.. يتبع