د.حسن مشهور
قبل أكثر من عقد من الزمان، كتبت مقالًا نشرته صحيفة العرب -التي تصدر من لندن- تحدثت فيه عن موت الإعلام الورقي وبأن الإعلام الإلكتروني قادم لا محالة ليحل محل كل ما هو ورقي، وليجتث في طريقه ذكرياتنا الجميلة التي ارتبطت بشراء الصحيفة أو المجلة أو الكتاب الورقي والعودة به ونحن نتأبطه مسرورين كي نطالع العالم بمجمل تفاعلاته من خلاله.
وكنت أعتبر هذا الأمر وأنا أكتب مقالي الاحتمالي حينذاك اعتداءً صارخًا لاقتصاديات الإعلام وتحولات النشر على بعض ما هو جميل في حياتي وذكرى صباي، وأعني بذلك الصحف والمجلات والكتب الورقية. إلا إنه كان قد بقي لدي أمل صغير وأنا أكتب مقالي التوقعي آنذاك خاصة فيما يتعلق بالصحف الورقية، وهو بأنني وأبناء جيلي ومن سبقنا كقراء افتراضيين ربما سنعزف بشكل غير مخطط له عن مطالعة الإعلام الإلكتروني بكافة أشكاله، الأمر الذي سيجعل بعض الصحف والمجلات تسعى للبحث عن أي منافذ للتمويل المالي كي تبقي على كينونتها الورقية ومن ثم تحافظ على قرائها الهدف، وكنت أعد نفسي طبعًا -نتاج صغر سني ومحدودة نظرتي آنذاك- بأني أحد هؤلاء القراء الافتراضيين (القارئ الهدف) الذين لا بد وأن تلبي الصحف الورقية مطالبهم في ضرورة البقاء والتواجد في قالبها الورقي التقليدي العتيق.
هذه الأنانية مني ومن غيري من القراء التي حاولت أن تتجاهل -عن عمد- تحولات الإعلام في زمنيته الجديدة التي فرضتها جملة من العوامل، قد وجدت نفسها لاحقًا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تواكب هذا التحول الوجودي للإعلام الورقي، وإما أن تجد نفسها بين ليلة وضحاها خارج مربعات الوجود الإعلامي.
ومن هنا فقد جرى في تقديري ذلك التحول لدي ولدى الآلاف من أبناء جيلي ومن يكبرنا سنًا حول ميكانيزمية التعاطي مع الإعلام الجديد، وهي آلية تعاطي أعتقدها الآن بأنها لم تكن قصدية، وإنما قد كانت نتاج قدرة العقل البشري على التفاعل مع أي متغير والانتقال من دائرة تأثر إلى أخرى.
فها أندا الآن -كمثال شاهد للعيان- جل قراءاتي إلكترونية، وإذا رغبت في الحصول على مرجع علمي وتوظيفه في كتاب بحث علمي محكم، أجدني وقد أسرعت لمواقع ومصادر المعرفة الإلكترونية، بل أكثر من ذلك إنه يحصل أن تهدى إلى الكثير من الكتب المطبوعة من العديد من الأدباء والكتَّاب خلال معارض الكتب العربية، فأجدني أشكر من أهدى على إهداءاته ولكن ما إن أعود بها لمقر سكني حتى أشعر بأن أمر إيجاد وقت لقراءتها أو حتى مسألة تصفحها بشكل جدي، يعد قضية لا يمكن لي معالجتها.
ومن هنا يجري في واقعي تحول، يتمثَّل في إني وبدون إرادة تخطيط، أخبر من التقيه في طريقي من المهتمين بالقراءة بأن لدي كتبًا يمكن لهم الحصول عليها والإفادة مما تحويه من علم ومعرفة. وأعترف، بأنه أثناء عملي هذا ينتابني شعور بأني أمارس خيانة أمينة لهذه الكتب التي كان يفترض أن أكون أنا من يقرأها وليس الغير، لكني أسارع للتخفيف من وطأة الشعور بتأنيب الضمير، بالقول لنفسي بأن غيري ربما سيستفيد منها معرفيًا أكثر مني. هذا إلى جانب أن هناك أمر آخر يخفف عني الشعور بالذنب، ويتمثَّل في إني قد قضيت جل سنوات صباي ومراهقتي وشبابي في قراءات شمولية ومتعمقة، أذكر منها بأن هناك أربعة أعوام كنت خلالها لا أفارق مكتبة الجامعة خاصة في فترة ما بعد الظهيرة والعصر، وما ساعدني في ذلك بأني كنت ولا أزال لا أعرف شيئًا عن الكرة ومبارياتها وفرقها، ولا أجيد سوى القراءة، وهي الهواية التي أجدني الآن قد بدأت أفقد السيطرة على بعض خيوطها، خاصة عندما يكون لدي كتاب ورقي أو صحيفة أو مجلة ورقية، وليس إلكترونية كما هو حاصل في فترتنا الراهنة نتاج التحول الإلكتروني الذي نعايشه مرحليًا ونعيشه. ولكن يبقى فعلي هذا مع الكتاب الورقي -في تقديري- أمر لا يمكن لي لو فكرت بمنطقية عقلية تبريره، فأنا من ينبغي له أن يقرأ ما يهدى إليه من كتب، سواء أكانت كتب قطع متوسط أو مجلدات.
ولكنه التحول الإلكتروني وتلك الثورية في مجال الاتصال وتقنية المعلومات هي من غيَّرت ذائقتنا القرائية وآلية مطالعتنا الكتابية، وفي تقديري بأن المستقبل في العقود القادمة سيشهد العديد من التحولات في مجال النشر والتأليف والقراءة. فالعالم في حالة تحول متسارع، والعديد من الأمور الحياتية المرتبطة به في تسارع تحولي مماثل. أي إن التحول والتغيير والتبدل هي أقرب ما تكون إلى السنة كونية، ويحضرني في هذا المقام قصة الشاعر العربي الكبير الكميت بن زيد الذي ربما قد ذكر دون فقه ودون وعي قصدي مركز منه للواقع الجدلي «للتحول»، كعادة الشعراء الذين نلتقط من شعرهم ومضات ذات أبعاد تأويلية بعديه ولكنها في تقديري غير قصدية، وذلك حين دخل متخفيًا على الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك في مجلسه للعزاء في وفاة ابنه مسلم بعد أن أهدر دمه كي يستغل هذه المناسبة الحزينة التي يلين فيها قلب كل أب -حتى لو كان الخليفة- ليطلب منه الصفح والعفو عمَّا أذنب، وإذا به يرتجل دون تخطيط مسبق منه لقصيدته التي تطرق فيها دون قصدية منه لمسلمة «التحولية» الزمنية منها والحياتية. وذلك حين قال:
قف بالديار وقوف زائر
وتأن إنك غير صاغر
ماذا عليك من الوقوف
بها مد الطللين داثر
درجت عليك الغاديات
الرائحات من الأعاصر
يا مَسْلَم بن أبي الوليد
لميَّتٍ إن شئت ناشر
علقت حبالي من حبالك
ذمة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمية
والأمور إلى المصاير