د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
لما كنتُ في المرحلة الابتدائية والمتوسطة كانت أيام عشر ذي الحجة من أحب الأيام إليَّ، وكنتُ أترقبها، لا لمعرفتي بفضلها وشرفها! بل لإدخال والدي -متعه الله بالصحة والعافية وجزاه خير الجزاء- «غنيمات الأضاحي» إلى منزلنا من صباح يوم التروية، فكنتُ أطعمها وأجلس مدة أنظر إليها، وأفرح بها كثيراً وما زلت، وربما أعطتني الوالدة-متعها الله بالصحة والعافية وجزاها خير الجزاء- بعض الحناء فأضعه على رأس تلك الأضاحي تقبلها الله.
وكان يوم عرفة له حضوره في قلبي لا أدري ما سببه مع صغر السن وقصور الإدراك، لكن منذ أن أصلي الظهر أُبادر إلى التلفاز لأنظر إلى الحجيج وأنتظر خطيب عرفة، ذلكم الخطيب الذي فرحتْ بخطبه نفوس أهل التوحيد والسنة.
الخطيب الذي كان مفخرة من مفاخر بلادنا.
الخطيب الذي ما زال صدى خطبه يجلجل في فؤاد غلام صغير يحب الغنم ويفرح برؤيتها.
خطيب يمسك العصا، ويرفع الصوت، كأنه منذر جيش!
سمعتُ المذيع يذكر اسمه قبل بداية الخطبة قائلاً: (يصعد الآن خطيب عرفة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ؛ ليلقي في الناس خطبة عرفة ثم يصلي بهم الظهر والعصر جمعًا وقصرًا)، رسخ اسمه وصورته وصوته في ذاكرة الغلام الذي تنازعه نفسه في البقاء ليسمع لهذا الخطيب وبين الذهاب لمشاهدة الأضاحي!
كنت أقول: كيف لهذا الشيخ الكفيف أن يخطب بهذه الأمة التي بين يديه، وتنقل خطبته إلى المسلمين ولا يعتريه ارتباك ولا تزعزع؟!
كيف يمضي قريباً من ساعة قوة في الألفاظ، وجهورية في الصوت، وتتابع في المواضيع مع حسن تسلسل لها؟!
كيف يرتب أفكاره، ويستدل للموضوع الواحد من موضوعات خطبته بعدد من الآيات والأحاديث؟!
حقيقة إنه خطيب قد ملأ إهابه، وعالم قد أصَّل علمه، وشيخ بارك الله له، وإمام قد أخذها بحقها، فليس الأمر مجرد صعود على منبر، وتكثير كلام، ورفع صوت، بل والله التوفيق من الله، والبركة في تلك الآيات والأحاديث التي يستشهد بها، ويُحسن بدأ مطلعها، فيعطي المنبر حقه تحضيرًا واستعدادًا، حتى قيل لي قديمًا: إن سماحته رحمه الله قيل له: ألا «تزْمَل» من خطبة عرفة (يعني ألا يرهقك عبؤها، والتفكير في أدائها، والقيام بها)؟ قال: بلى منذ نزولي من درجات منبر عرفة أفكر في خطبة عرفة القادمة!
وأظن – وبعض الظن ليس إثمًا- أن أعظم سبب في كون سماحة شيخنا من نوادر الخطباء في هذا الزمان، هو أنه يبرأ من حوله وقوته ويلجأ إلى حول الله وقوته، مع أخذه بالأسباب.
وهذا ما ينبغي لنا جميعًا أن نعيه ولو كانت الورقة بين يديك، ولو كنت شابًا قويًا فلا تغتر بقوتك، ولا تركن إلى نفسك، ولا تثق لمجرد أن الورقة بين يديك بل التجئ إلى الله سبحانه، فكم نحن والله محتاجون إلى ربنا غاية الحاجة، بل مضطرون غاية الاضطرار إليه، فحاجتنا إليه سبحانه أعظم من حاجة الطفل إلى والديه، ولا أعلم أحداً بسط الكلام حول اضطرار الخلق إلى ربهم، وحاجتهم إليه في عباداتهم وأمورهم كلها، كما فعل الإمام ابن تيمية عليه من ربه الرحمات في مواضع من كتبه، ومنها على سبيل المثال الجزء الأول صفحة (20 وما بعدها).
لقد كان سماحة شيخنا أنموذجًا نادرًا في خطباء زماننا، لقد كنتُ في المرحلة المتوسطة وأفهم كلامه في الخطبة وأعي مقصوده، وهذا هو الخطيب الناجح؛ إذ ليس المقصود التقعر في الألفاظ، والتكلف للمعاني، والتتبع لوحشيِّ الكلمات، بل المطلوب الاتباع للسنة، والنصح للخلق بلفظ يُفهم من مجرد إلقائه، وكما قال الصَّفي الحلِّي:
وَقَبيحٌ أَن يُذكَرَ النافِرُ الوَحشِيَ مِنها وَيُترَكَ المَأنوسُ
إِنَّما هَذِهِ القُلوبُ حَديدٌ وَلَذيذُ الأَلفاظِ مِغناطيسُ
أذكر مرة حدثني الشيخ سعد الحصين عن أخيه الشيخ صالح رحمهما الله أنهما صليا خلف خطيب مشهور، فلما انتهوا من صلاة الجمعة، التفت الشيخ سعد إلى الشيخ صالح قائلاً: ما معنى هذه الكلمات التي قالها الخطيب؟ فقال الشيخ صالح: سأراجع بعض كتب اللغة، فقال الشيخ سعد: إذا كنت أنت عضو هيئة كبار العلماء لم تعرف معناها فكيف ببقية الحاضرين!
فهذه من مزايا سماحة شيخنا عبدالعزيز آل الشيخ رحمه الله: وضوح اللفظ والمعنى والمقصد، مع حسن سبك للجمل والعبارات، وقدرة فائقة على الاستشهاد بالنصوص الشرعية، فهو -خاصة في خطب عرفة- كما قال أبو الفتح ابن الأثير رحمه الله في كتابه «المثل السائر» عن شعر البحتري: (هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس قريبًا ضوؤها، بعيدًا مكانها).
فشيخنا هو قمر الخطباء ونجمهم، وأقول كما قال الشافعي رحمه الله: (إذا جاء الأثر، كان مالك كالنجم)، فشيخنا سليل العلماء الأماجد، فجده الأعلى الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وقد كان خطيبًا مشهودًا انتفع الناس من خطبه عقودًا كثيرة، جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء.
وجده الأدنى الشيخ محمد رحمه الله، هو أول خطيب لعرفة في عهد الملك الصالح والإمام العادل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رفع الله مقامه وأنزله هو وذريته في أعلى الجنة.
فلا غرابة في تسلسل الخطابة والفصاحة في هذه الأسرة المباركة، وعلى ذكر جد شيخنا الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن رحمهم الله، حدثني الشيخ محمد بن حمد العويد قال: حدثني الشيخ فهد العبيد رحمه الله أن الشيخ محمد بن عبداللطيف حدثه قائلاً: كنت في مجلس أبي الشيخ عبداللطيف وعن يمينه جدي الشيخ عبدالرحمن، وكان عمري قريبًا من ثماني سنوات، وكان فيه علماء وطلاب علم، منهم علماء من القصيم وكانت آنية ماءِ الشرب مملوءة موضوعة فتناولها أحد أهل العلم من القصيم فشرب، فقال له أبي: «هَني خلافًا لأبي»! ويشير إلى والده الشيخ عبدالرحمن، وجدي يتبسم من قول ابنه.
إذ إن الشيخ عبدالرحمن يرى التزامَ الدعاء لمن شرب من الماء بقول: هني، يعني: هنيئاً، يدخل في باب المحدثات، والوارد في الشرع أن الشارب هو الذي يحمد الله، والشيخ عبداللطيف: يرى أن ذلك من باب العادات لا العبادات كالتهنئة بالعيد ونحوه.
فحدثتُ بها سماحة شيخنا رحمه الله فسُرَّ وتبسم وترحم عليهم.
أُحدِّثُه بحديث اجتمع فيه ثلاثة من أجداده كل منهم له قدره ومكانته، أُحدِّثُه وأستحضر علو قدرهم، واجتهادهم، وبذلهم، وقبلهم الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وما بذلوه من جهد في تحقيق اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتذكر قول القائل:
سَما لك مجد باذخ متطاول
وجدٌّ على أعلى المجرَّة نازل
منيف يراه النَّجم كالنَّجم ساميًا
يقصِّر عن إدراكه المتناول
وهذه القصة اللطيفة الواقعة بين الأب وابنه في الدعاء لمن شرب ماءً، يدلنا على سعة الأفق في البحث والنظر، فهذا عالم زمانه الشيخ عبدالرحمن بن حسن بل كان يعد المجدد الثاني بعد الإمام محمد بن عبدالوهاب، يخالفه ابنه ويجتهد ويبين رأيه بعبارة حلوة في مجلس قد امتلأ من أهل العلم، ولم يزد الشيخ عبدالرحمن عن التبسم، فمسائل الاجتهاد لا تستوجب نفور النفوس، بل كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (لا أعنف من قال شيئاً له وجه، وإن خالفناه).
ما زلتُ أستحضر خطبة سماحته عام 1427هـ؛ وكنتُ حينها في مخيم سماحة شيخنا صالح اللحيدان رحمه الله، في خيام متواضعة ليس فيها تكييف، فلما اقتربت خطبة عرفة وُضِعَ الراديو لنسمع الخطبة، مع أن المسجد تلوح منائره من بُعْدٍ ليس ببعيد، فبدأ شيخنا رحمه الله بالخطبة ويا لها من خطبة، بدأتُ في عقد الأصابع لعد الآيات التي يذكرها ثم تركته لكثرتها جدًّا، وأذكر أنه بدأ بالكلام عن القرآن، (وهي منشورة)، فقال في مطلع كلامه عن القرآن: (محكم البيان، واضح البرهان، فيه الوعد والوعيد، فيه النهي عن الشرك والأمر بالتوحيد ...) ثم سرد الآيات في القرآن وفضله وتدبره، وأن الله أنزله؛ ليخرج العباد من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم:1)، في كلام عظيم جداً، ثم قام يسرد من هدايات القرآن ما لو جُعِلت في رسالة مختصرة لكانت من أعظم الرسائل.
ومن لطيف استدلاله رحمه الله على قوله: الشرك نقص في العقل، (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الأعراف: 191)، بصوت جهوري لا تمل سماعه وتكراره.
وجَّه فيها النصائح العامة إلى الجميع، إلى القادة، والعلماء، والمربين، والشباب، والفتيات، والإعلام، بذل النصح للعالم الإسلامي ولغيره، ورفع صوته: أمة الإسلام.
على مدار خمس وثلاثين سنة، وهو يبذل نصحه من فوق هذا المنبر، كم نصح وأفاد ووجَّه وعلَّم وأرشد، وكم أبكى من الناس في داخل عرفة وخارجها ممن تبلغه خطبته، خاصة إذا قال رحمه الله: حجاج بيت الله الحرام، تذكَّروا في هذا الموقف العظيم موقفكم بين يدي الله يوم القيامة، حافية أقدامكم، عارية أجسادكم، شاخصة أبصاركم.
تذكَّروا يوم العرض بين يدي الله، تذكَّروا يوم توزن أعمال العباد، تذكَّروا يوم تطير الصحف، تذكَّروا يوم تمرون على الصراط، تذكَّروا يوم تفتح أبواب الجنان فيدخلها محمد صلى الله عليه وسلم.
تذكَّروا يوم ينادي المنادي: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت..).
وهو يستدل عليها بدليل القرآن أو السنة.
ما أعظم فقده! رحمه الله، وجزاه عن الحجاج والمسلمين خير الجزاء.
أَيْن الَّذين إِذا هُمُ عقدوا الحُبى
حلّوا بأرفع رُتْبَة وَمَكَان
قُم باكيًا متأوهًا مسترجعًا
لمصاب هَذَا الْعَالم الرباني
أَعْظِم بِيَوْم مصابه من مصرع
فِي مصر حلَّ بِسَائِر البلدَانِ
التحقتُ بكلية الشريعة بالرياض، وكان طالب العلم يتخير من العلماء ما شاء حضورًا لدروسهم، وجلوسًا إليهم، وكان زينتهم وواسطة عقدهم: شيخ العلماء ورأسهم في زمانه، شيخنا الجليل عبدالعزيز بن باز رحمه الله، فكان الحضور عنده ، فلما قضى نحبه رحمه الله توجهتُ إلى دروس شيخنا صالح الفوزان متعه الله بالصحة والعافية، وكنتُ إذا زرته في مكتبه في الإفتاء، ربما قال لي: هل سلمت على سماحة المفتي؟ فأجيبه: لا، بدأتُ بكم، فيقول: اذهب إليه ثم تعال، فأقول: أبشر.
ومرة جئت إلى الشيخ صالح فكلمته في موضوع ما لا يتعلق بي، فقال: ذهبتَ إلى المفتي، فقلت: ربما لا يتيسر لي الدخول عليه، فقد تغير بعض العاملين في مكتب الاستقبال، وهم لا يعرفونني، وعنده أعمال كبيرة وكثيرة، فقال: الآن أرسل معك من يُدخلك، فأرسل معي أحد العاملين معه في مكتبه، فمباشرة دخلتُ على سماحته، وقلت له: معذرة شيخنا فإني مقلٌّ من الزيارة لكم في مكتبكم؛ لكثرة أشغالكم وتنوع أعبائكم، فيجيب: الله يحييك نفرح بكم، ثم طلب القهوة رحمه الله، فقلت له عن الموضوع وأن شيخنا الفوزان قال لي: أن أقول لكم.
كان يسمع للناصحين، ويُدرك غيرتهم، ويعفو عمن تجاوز الحد منهم في الكلام مع سماحته ولا يقاطعه، وهو -أشد فيما أحسبه والله حسيبه- غيرة من أكثر الذين يأتون إليه رحمه الله.
إنَّ النَّصَائِحَ لَا تَخْفَى مَنَاهِجُهَا
عَلَى الرِّجَالِ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَالْفَهمِ
وأذكر أني كتبتُ مقالاً وعرضته على شيخنا صالح الفوزان حفظه الله، وقد حوى على نقل عنه وعن غيره ممن هم أكبر سنًّا منه، ففرح بالمقال لكن طلب مني أن أمرَّ به على سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز، وأن أضمنه كلامًا له، وفي هذه لفتة جميلة من شيخنا لا تخفى.
كم من مرة رأيتُ سماحة الشيخ عبدالعزيز يأتي إلى مكتب الشيخ صالح، فمرَّات يُسلِّم ويقبِّل رأس الشيخ صالح ويخرج، وأحيانًا نَخْرج ويُغلق الباب، وأذكر مرة دخل سماحته على الشيخ صالح وكنتُ عنده، فسلم على الشيخ، وقمتُ لأسلم على سماحته، فقال الشيخ صالح: عرفته يا سماحة الشيخ هذا الشيخ محمد الفريح، فيجيب سماحته: معروف، فيقول الشيخ صالح: يقولون إنه دكتور في الجامعة يقولها الشيخ ضاحكًا ممازحًا، فيضحك سماحته رحمه الله.
وعلى ذكر العلاقة بين الشيخين، أذكر أني ذهبتُ مع الشيخ صالح إلى زيارة سماحة المفتي لما كان ملازمًا سرير مستشفى قوى الأمن وهو مستلقٍ عليه لا يتحرك حتى ينجبر الكسر، فلما سمع سماحته صوت السلام من الشيخ صالح تهلل وجهه قائلاً: أهلاً بشيخنا، ومد سماحته يده للشيخ صالح، فتناولها الشيخ صالح وقبَّلها، فأخذ سماحته يد الشيخ صالح وقبَّلها أكثر من مرة، ودار بينهما حديث المودة والمحبة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، دعا الشيخ صالح لسماحته بالشفاء وعظيم الأجر، واستأذنه في الانصراف.
فتوقير العلماء واحترام بعضهم لبعض مدرسة للناس ولطلاب العلم على وجه الخصوص، وهذه من الفوائد التي تراها بعينيك، وأكثر الناس تأثرًا بها من لازم أهل العلم، قال موسى بن داود: كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء حسين الجُعْفي، فقام ابن عيينة فقبَّل يده.
وقد ألَّف ابن المُقْرئ (ت 381هـ) جزءًا سماه «الرخصة في تقبيل اليد».
وتوقير العلماء بعضهم بعضًا مما يُحْرص على نشره بين طلاب العلم، فمثلاً معاملة الإمام سفيان بن عيينة للمحدث الثقة حسين الجعفي رحمهما الله أنموذج من مئات النماذج في التوقير والاحترام بين العلماء، بل قال سفيان بن عيينة: عجبتُ لمن مر بالكوفة فلم يقبِّل بين عيني حسين الجعفي!
فلعل أحد طلاب العلم أو غيرهم ينشط لجمع شتات المنثور في السير والتراجِم حول توقير العلماء بعضهم لبعض.
كنتُ في منزل سماحته بعد صلاة العصر أتحدث إليه وكان عدد الحاضرين عدد أصابع اليد الواحدة، فدخل معالي الشيخ الدكتور عبدالله آل الشيخ رئيس مجلس الشورى حفظه الله، فقلت لسماحته: هذا صاحب المعالي الشيخ عبدالله بن محمد دخل باب مجلسكم، فرفع يده سماحته، فتناولها معاليه ورأيت من توقيره العالي والرفيع لسماحته فعلاً وقولاً ما سرني كثيرًا جزاه الله خيرًا، وبعد مدة من الحديث والكلام استأذن معاليه في الذهاب، ورأيت في توديع معاليه لسماحة الشيخ التوقير العالي وغير المستغرب فعلاً وقولاً كذلك، فلما مال معاليه بوجهه إلى جهة الباب تأثَّر! وتحشرج صوته، ودمعت عينه أو كادت! وأظن أن سبب التأثر ما كان عليه حال سماحته من مرضه وضعفه جعل الله ذلك رفعة له في الآخرة، وجزى الله معاليه خيرًا، فقد كان تأثُّره مؤثرًا علينا ممن شهد المجلس وانتبه لذلك.
ولا مثل دمع العين يوم أَكفُّه
وتأبى سواقيه العلا أن تصرما
يسر الله لي دخول المعهد العالي للقضاء لدراسة الماجستير، فكان في طليعة مدرسيه سماحته رحمه الله، وقد فرحتُ جداً بتدريسه، ومن فرحي أني كنتُ أنتظر سماحته عند مدخل المعهد لأسلم عليه، وأتشرَّف بأخذ يده إلى القاعة، وقد كان طيلة هذه السنوات التي أراه فيها قادمًا للمعهد لا يتأخر عن المحاضرة يقف عند باب المعهد في السابعة والثلث أو السابعة وخمس وعشرين دقيقة غالبًا، وربما وصل قبل موعد الدرس والمحاضرة بوقت أطول من هذا، فكنتُ إلى الآن أتعجب من الانضباط التام في الحضور على الموعد لإلقاء محاضراته رحمه الله، وكنتُ أنتهز هذه الفرصة بطرح الأسئلة عليه، سألته مرة عن مسألة فقال: الشيخ ابن باز يقول فيها كذا، والشيخ ابن عثيمين يقول فيها كذا، فقلت: جزاكم الله خيرًا ما رأيكم فيها؟ فقال: رأي الشيخ ابن باز أقرب للقلب، والمسألة تحتاج إلى تأمل وزيادة بحث، أسأل الله أن يفقهنا في دينه.
وسألته مرة عن أخذ ماء جديد للأذنين غير الذي مسح به رأسه في الوضوء، فقال: الأذنان من الرأس، فذكرتُ له كلام ابن القيم رحمه الله في الزاد أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ ماء جديدًا، وكان يمسح أذنيه مع رأسه، وإنما صح ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي موضع آخر كأن ابن القيم لم يرض ببعض ما ثبت عن ابن عمر، منها هذه المسألة، فقال: الفتوى على مسح الأذنين مع الرأس بماء واحد، وهو رأي ابن تيمية وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله، فقلت: هل من مسح أذنيه بماء جديد ينكر عليه؟ قال: لا، فعله ابن عمر على ما ذكرتَ، ثم قال: هل تعرف مسائل كان العمدة فيها على فتوى الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت فيها حديث، فقلت له: نعم شيخنا عندي بعض المسائل بودي عرضها على سماحتكم، لكن وصلنا مكان الدرس، فلعلكم تأذنون لي فأكتبها واقرؤها عليكم بإذن الله، فقال: طيب، ثم أخبرته بالمسائل رحمه الله، ودفعت إليه بشيء كتبته فيها، وربما عزمتُ على جعلها موضوعًا للبحث التكميلي ثم صرفتُ عنه.
أذكر في صباح يوم الأحد الموافق 14 /2 /1425هـ وقفتْ سيارة سماحته أمام مبنى المعهد العالي للقضاء، فتلقَّيته من باب سيارته للذهاب به إلى مكان التدريس، وقلت له: أحسن الله عزاءكم في الشيخ عبدالسلام برجس آل عبدالكريم – إذ بالأمس قد أمَّ سماحته المصلين عليه في جامع الإمام تركي بن عبدالله- فدعا له وترحم عليه، فقلت: قد كان ابنًا بارًا لأئمة الدعوة، فقال: أنا أشهد رحمه الله، ثم قال: بعض من لا خلاق له يتكلم فيه، فقلت: كما تكلموا في علمائنا، ولا عبرة بهم، فقد قال مُطرِّف بن عبد الله: قال لي مالكُ بنُ أنسٍ رضي الله عنه: (ما تقول الناسُ فيَّ)؟ قلت: أمَّا الصَّديق، فيثني، وأما العدوُّ، فيقع، فقال: (ما زال الناسُ كذلك، لهم صديقٌ وعدوٌّ، ولكن نعوذ بالله من تَتَابعِ الألسنِ كلِّها).
وآفةُ التِّبْرِ ضعْفُ منتقدِه، وما أحسنَ قول صاحب المعرة:
والنجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصَارُ رُؤْيَتَهُ
والذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لا لِلنَّجْم في الصِّغَرِ
وقد درستُ على سماحته رحمه الله في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وقرأتُ عليه بعض بحوثهما، أذكر منها: بحث (الزواج بنية الطلاق) في مرحلة الدكتوراه بحضور الزملاء وفقهم الله، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى المنع، وكنتُ رجحتُ في البحث جواز العقد وصحته، وأجبتُ على استدلال من منع منه، فقال سماحته: يا شيخ محمد هذا العقد لا يحقق مقصود النكاح؟ فقلت: أحسن الله إليكم شيخنا أليس من أعظم مقاصد النكاح الذرية وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بلى، فقلت: أفيحرم نكاح العقيم؟ فقال: لا، فقلت: عدم حصول أكثر مقاصد النكاح لا تبطله ولا تحرمه، فقال: ما منا أحد يرضاه لأخته أو لابنته، فقلت: أحسن الله إليكم شيخنا كذلك لا أحد منا يرضى أن يتزوج زوجُ ابنته عليها، فالرضى وعدم الرضى لا يمنع مباحاً ولا يحجب حلالاً، فالعبرة بالشرع، والشرع لم يعلق الحكم برضى الناس في هذه المسألة، إلى آخر ما دار من نقاش.
أيها القارئ الكريم رحمك الله، هل تظن أن سماحة شيخنا رحمه الله انفعل أو ظهرتْ عليه بوادر غضبٍ؟ أو أعرض عن الطالب وتجاهله؟
لا والله، بل لقد رأيتُ سرورًا في وجهه بالنقاش والمباحثة وكأنه يريد المزيد والتربية على البحث والمناقشة، ثم قال لي: هل أنت ممن تخرج في معهد إمام الدعوة؟ فقلت: لا، بل في المعهد العلمي في حوطة سدير، فدعا بالبركة رحمه الله، وجزاه الله عن طلاب العلم خير الجزاء.
وَأَحْلَامُ عَادٍ لَا يَخَافُ جَلِيسُهُمْ
إذَا نَطَقَ الْعَوْرَاءَ غَرْبُ لِسَانِ
إِذَا حُدِّثُوا لَمْ يُخْشَ سُوءُ اسْتِمَاعِهِمْ
وَإِنْ حَدَّثُوا أَدَّوْا بِحُسْنِ بَيَانِ
وتماماً للفائدة فحين ذكرت الراجح في هذا البحث (الزواج بنية الطلاق)، فإنما هو من باب ترجيح فقهٍ لا تجويز واقع وتطبيق حال مما يعمله بعضهم ويزعم أنه زواج بنية طلاق، وقد كتبتُ بعد الترجيح ما نصه (فتطبيق بعض الناس لهذا العقد محل نظر، فقد اُرتكب المحرم، ونُكِحتْ المعتدة، وزاد الرجل في عصمته على أربع نساء في بضعة أيام، وأُنشئت الأسفار، وتُزوِّج من غير المحصنات العفيفات، وهذا خلل ممن فعله وجريمة، وتهافت أهل الريب على ذلك، وعُرِضتْ النساء باسم هذا العقد على الرجل بحجة النظر إلى المخطوبة، فيؤتى بمجموعة من النساء لينظر إليهن، فيختار منهن ما يروق له أو تكون صورًا في كتلوج!
فبأي شرع ودين يمكن القول بمثل هذا، (مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النـور:16).
وزلل الناس لا يحسب إلا على أنفسهم، لا يحسب على الشرع ولا على أهل العلم، ولو طبقوا ما ذكره أهل العلم، وخَطَبَ خِطْبة شرعية، وقُيِّد الزواج حفظاً للحقوق، وحضر الشهود، وتمت الموافقة، واكتملت الشروط، ولم يكن هناك مانع شرعي من نكاح في عدة ونحو ذلك، ولم يكن الطلاق مشروطًا عرفًا أو إخبارًا، بل كانت نيةُ الزوج لا يعلمها إلا الله فمن يبطل هذا العقد؟!).
كان الشيخ يعرض رأيه ويستدل له، ولا يغضب إن خالفته في مسألة هي موضع اجتهاد، وهكذا العلماء، بل حدثني أحد المشايخ: أن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في اجتماع هيئة كبار العلماء، إذا عُرض الموضوع لم يُبد رأيه حتى ينتهي الجميع ثم يقول رأيه، فيكون الرأي رأيه غالبًا، بل ذكر لي أحد المشايخ الكرام قائلاً: كنا نرفع رؤوسنا ونتكلم في اجتماع الهيئة حتى ينتهي جميعنا، وشيخنا ابن باز يستمع مطأطأ رأسه، فإذا رفع رأسه رحمه الله طأطأنا رؤوسنا.
ولما عُيِّن سماحته نائبًا للمفتي العام، كان يقول الشيخ ابن باز حين يُعرض الموضوع: رأيي ورأي النائب الشيخ عبدالعزيز يكون بعد أن نستمع لجميع المشايخ، فرحمهم الله، وغفر لجميع علمائنا، فما أحسن أثرهم على الناس، جزاهم الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.
كأنْ لم يَكُنْ بينَ الحَجُون إلى الصَّفَا
أَنِيْسٌ، وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سامرُ
** **
- أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء