أحمد يوسف الراجح
أكتب اليوم مقالتي بعدما صنعت من دموع المسلمين محبرة بحروف حزينة، وكلمات صادقة أرثي إمام الإفتاء ونبراس الوسطية وميزان الاعتدال شيخ الشيوخ ومرشد الأمة الإسلامية عميد منابر الحج على مر التاريخ، والمفتي الثالث للمملكة العربية السعودية، نعم، ودّعت المملكة العربية السعودية يوم الثلاثاء الموافق لتاريخ 1 من ربيع الثاني لعام 1446هـ الموافق 23 من سبتمبر لعام 2025 للميلاد المفتي العام للمملكة العربية السعودية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، رحمه الله عن عمرٍ يناهز 82 عاماً، نذرها في خدمة الإسلام والمسلمين تاركا خلفة علما شرعيا جسده إبان حياته ليكون إشعاعا ونبراسا تسلتهم منه الأجيال وتاريخا شاهدا على ما قدمه من أجل الوطن والدين.
لمحة من السيرة الذاتية لفضيلة الشيخ عبد العزيز ال الشيخ رحمه الله، الولادة والطفولة الآولى والشباب:
ولد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ في مكة المكرمة لعام 1943 للميلاد أي في عهد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- وفي الثامنة من عمره فقد والده الشيخ عبد الله ال الشيخ ليبدأ حياته في مرارة فقد الأب، ولكن كان العوض و الاثر الأكبر لوالدتة الشيخة سارة بنت إبراهيم الجهيمي التي حرصت أشد الحرص في رعايته وتربيته حتى أنها كانت تصطحبه حينما كان طفلا إلى المساجد لحضور الصلوات والدروس، كانت تجسد نموذج الآم الصالحة في تربية الأبناء، وسرعان ما حصدت أول ثمار هذه التربية الصالحة بصلاح ابنها الشيخ عبدالعزيز ال الشيخ» حيث أظهر نبوغا مبكرا، وفطنة عالية ميزته عن باقي أقرانه ممن في عمره ليتم حفظ القرآن الكريم وتجويده في سن مبكرة، كان ذلك على يد فضيلة الشيخ محمد بن سنان، واستمر عند الشيخ ابن سنان يتعلم أساسيات العلوم الشرعية وسط تراجع بصره الذي فقده في بداية العشرينيات من عمره ولم يثنه فقد البصر عن ما آل إليه في اكتساب العلوم الشرعية، بل كان محفزا له، و نال على أثره العوض بالبصيرة والتبصر والنفاذ.
واستمر في تلقى العلوم الشرعية على يد كبار العلماء وفي مقدمتهم ممن سبقوه في منصب الافتاء العام للمملكة العربية السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. وفضيلة الشيخ العلامة عبدالعزيز ابن باز ليكون من أبرز طلاب العلم الذين يشار لهم بالبنان والمستقبل المشرق، كان ذلك بعد توفيق الله ثم حرصة على دروسه التي لا يتخلف عنها شغفا في نهل معين علم الشيخين، وبالفعل أجاد « عبد العزيز ال الشيخ» العلوم الشرعية وقواعد اللغة العربة الفصحى بكل إحكام حتى أصبح امتدادا للعلماء الكبار في العلم و الوسطية والاعتدال، ولم يكف العالم الجليل عن التعليم، بل كان في كل مرحلة يزيد طلبا للعلم شغوفا في التففه في الدين واللغة العربية الفصحى ليبدأ في مرحلة جديدة من التعليم ألا وهي التعليم الأكاديمي ففي عام 1374هـ .
بدأ الشيخ في التحاق بمعهد إمام الدعوة العلمي بالرياض ومن ثم في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الى أن تخرج عام 1384هـ متخصصا في الشريعة الإسلامية واللغة العربية ليؤهل كل ذلك التعليم إلى البداية العملية ونفع المسلمين.
البداية العملية
في عام 1384هـ تم تعيينه مدرسا في معهد إمام الدعوة العلمي بالرياض وبعدها تم تعيينه أستاذاً مساعداً عام 1399هـ، ثم أستاذاً مشاركاً عام 1400هـ، بالإضافة إلى التدريس بالمعهد العالي للقضاء، كما أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في عدة جامعات ومعاهد .
علاوة على الإمامة والخطابة في جامع الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة بالرياض الى أن عين في جامع الإمام تركي بن عبد الله، أحد اهم الجوامع في تاريخ المملكة العربية السعودية والمكان الذي يرتاح فيخ، كما كان له دور كبير في اقامة وحضور الندوات والمحاضرات داخل المملكة وخارجها للتعريف بدين الإسلام الصحيح وقواعد الشريعة.
وفي عام 1402هـ عين خطيبا لمسجد نمرة بعرفة، المسجد الذي ارتبط به ارتباطا خاصا ووثيقا حيث ارتبط اسمه في خطبة عرفة من كل عام في الحج الخطبة التي ينتظرها جميع المسلمين، حيث كان يحاكيهم ويرشدهم ويلخص بها اهم قضايا العام ويضع الحلول والواجبات لها، وفي عام 1407هـ، صدر قرار تعيينه في هيئة كبار العلماء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عام 1412هـ.
وفي عام 1416هـ، عين نائبا للمفتي الشيخ عبد العزيز بن باز وفي عام 1420هـ الموافق 1999م، صدر الأمر الملكي الكريم والحكيم من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز طيب الله ثراه بتعيينه مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية ورئيسا لهيئة كبار العلماء، إضافة إلى رئاسته العامة للبحوث العلمية والإفتاء، واستمر في تلك المناصب حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أدامه الله مما يؤكد على كفاءته العلمية والشرعية التي نال بهاء ثقة القيادة.
يعد الشيخ عبد العزيز ال الشيخ أحد أهم رموز الدعوة في العالم الإسلامي لما يملك من صفات علمية وشخصية ونشاط دعوي لافت حيث كان يقيم الدروس في كل مكان في المساجد والجامعات والمعاهد الى الاذاعة والتلفزيون عبر البرامج الدينية المختلفة التي يأتي على رأسها برنامج نور على درب علاوة على حظورة المجالس الخاصة في أسرته او عند تلقيه دعوة للحضور في المجالس العامة كان متوضعآ بسيطا في طبعه لا يرد أحدا يقبل دعوة الجميع دون استثناء حتى عبارته إذا لقي اي شخص فيها رقة قلب ودماثة خلق يدخل القلب دون استذان، وجد له مكانة عالية وتقديرا كبيرا لدى جميع اطياف المجتمع والشعوب الاسلامية.
ومثل ما الجميع يعرف كان يستقبل الجميع في مجلس منزله دون تميز من بعد صلاة الظهر والعصر يومي الجمعة والسبت ويجيب المستفتيين بلهجة تتناسب مع الجميع فتجده تارة يتحدث بلهجة النجدية البسيطة ليضمن فهم المتلقي البسيط، بل ويعيد دون ملل او كلل لضمان الفهم للمتلقي وتارة يتحدث بلغة فصيحة عالية نقية إذا كان المتلقي ذو معرفة ودراية ثقافية كان ذا أخلاق عالية متواضعا حسن تصرف يتحلى بالحكمة ويستند على نهج اهل السنة والجماعة يحاور الجمع ويشدد على اهمية البذل والعطاء حتى ان له رحمة الله ادوارا اجتماعية كثيرة في تخفيف عن معاناة الكثير من خلال بذلة وعطائه وأياديه البيضاء كما عرف عنه حرصه الشديد على طلاب العلم حيث كان يخصص لهم وقتا من جدوله المزدحم لتبين المسائل الشرعية في التوحيد والفقه لينشي جيل جديد يكمل مسيرة العلم الشرعي على يديه حتى أنه ذكر أحد المقربين من الشيخ أنه في آخر أياهم كان يتحامل على نفسه، رغم مرضه الشديد من أجل طلابه الذين يحضرون له رغم تعبه وتوصيات الأطباء الحثيثة
له بالراحة، الا أنه كان يرفض رفضا قاطعا أن يقطع مجلسه في تعليم طلاب العلم طوال حياته، لم يغب عن أي محفل علمي حاملا هم الدين والدعوة، يخاطب العالم الإسلامي من نتاجه العلمي والشرعي في العديد من المؤلفات المقروءة والمرئية والمسموعة التي أصبحت مرجعا مهما للامة الاسلامية في علوم التوحيد والفقه وأحكام العقيدة ونشر مفاهيم الوسطية والاعتدال.
واليوم برحيل الشيخ من الواجب على من ثنى ركبتيه امامه وأصغى سمعه من طلبة العلم ان يتحلى بصفاته الشخصية والعلمية، وأن يكمل مسيرة العلم ليكون خير سلف لخير خلف فالشيخ عبد العزيز آل الشيخ أدى الرسالة على أكمل وجه وسيظل مضيئا في صفحات التاريخ بعلمة ومؤلفاته لتستلهم منها الاجيال الإسلامية القادمة.
وفي الختام
لا أستطيع ذكر كل مناقب الفقيد، وتاريخه فنحن بحاجة إلى مجلدات وأيام، ولكن أحببت أن أستذكر معكم في مقالي بعضا من هذه الجهود والانجازات التي ما هي إلا قليل من كثير، من عطائه -رحمه الله- وإن هذا المقال ما هو الا شيء من واجبنا تجاه، تلك الشخصية العظيمة التي حظي بها وطننا الغالي.
وإنني أتقدم باحر التعازي لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- والشعب السعودي والامة الاسلامية سائلين الله أن يرحم الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ رحمة واسعة وأن يسبغ عليه من شآبيب رحمته.. داعيا الله أن يجعل ما قدمه لوطنه ولأمته في موازين حسناته.