د. علي القحيص
عندما كنا صغاراً وشباباً، نسمع الأخبار من كبار السن يتحدثون عن الحروب والأزمات، وكل حرب أو أزمة أو صراع يتعرض له العرب، لابد من أن يذكر السودان وقوته العسكرية وتأثره وتفاعله معها آنذاك، ودور قيادته في حل النزاعات وإطفاء الحرائق، سواء على الساحة الدولية أو العربية أو الإقليمية، قبل أن يهمش السودان ويتقاتل مع بعضه، ويصاب شعبه بالجوع والأمراض.
قصة غريبة يحكيها سائق الرئيس الراحل جعفر النميري يقول فيها: بحكم عملي كسائق للرئيس أعرف مسبقا البرنامج اليومي لتحركات الرئيس بتفاصيلها المعتادة، أين سيذهب بالساعة والدقيقة، وغالبا كان برنامج العمل منذ الصباح الباكر حتى الظهر، وكان النميري حينما يأتي وقت الظهيرة يقول لي اذهب إلى أولادك وخذ قسطا من الراحة، وعند الخامسة مساءً ترجع الي ثانية، وكان هذا هو البرنامج اليومي، وذات يوم حدث أمر غريب حيث طلب مني الرئيس النميري الذهاب في مهمة لم أكن أعرف إلى أين نحن ذاهبون، حيث توجهنا في السيارة وانطلقنا، وأنا لا أعلم الجهة المقصودة، يقول لي أعبر يمينا ومن ثم شمالا إلى أن وصلنا إلى مقهى شعبي داخل الأحياء، وحينها قال لي الرئيس توقف هنا وفتح زجاج نافذة السيارة وأخذ يصيح: (يا يوسف.. يوسف)، حتى أتاه رجل من داخل المقهى مهرولا، سلم على الرئيس وقال له: (يا يوسف محتاج لي 30 جنيه دين فقال له (يوسف الفكي)، بأنه لا يملك هذا المبلغ الآن واعتذر للرئيس وانطلقنا، يقول السائق عندما طلب الرئيس نميري من (يوسف الفكي) مبلغ 30 جنيه، ذهلت وصعقت كيف لرئيس جمهورية السودان أن يذهب ويستلف مبلغ 30 جنيها من صاحب مقهى شعبي، وهو الذي إن أمر تأتيه كل خزائن الدولة (هرولة)، كيف يذهب ويستلف من شخص عادي، وقال السائق بعدها استدركت وعرفت ان الرئيس ذهب ليستلف ليدفع مرتباتنا نحن العاملون معه (أنا والطباخ والخادم) في منزله.
وفي رواية أخرى بداية السبعينات وردت تقارير أمنية لمكتب المشير جعفر محمد النميري رئيس الجمهورية، تفيد بتزايد نشاط عصابات النهب المسلح في دارفور، كما يذكر (عبدالماجد الكاهلي)، وحينها استدعى النميري على إثرها المرحوم (أبو كدوك)، وطلب منه القضاء وبحسم على هذه الظاهرة والفوضى، قام (أبوكدوك)، بتحريك كتيبة واحدة من قوات الشعب المسلحة بقيادة ضابط برتبة مقدم قامت بإنجاز المهمة في وقت سريع، ومن ثم انهمكت في مطاردة فلول الهاربين من العصابات، حتى قادتها المطاردة لاقتحام انجامينا عاصمة تشاد وتلتها ياوندي عاصمة الكاميرون حتى انتهى بها الأمر لدخول «كانو» أكبر مدن شمال نيجيريا!
كل ذلك دون علم المشير النميري، الذي فوجئ بخطاب من الرئيس الفرنسي «فاليري جيسكار ديستان»، حمله له السفير الفرنسي بالخرطوم جاء في الخطاب العبارات التالية:
(سيدي رئيس جمهورية السودان، إذا كانت لدي حكومتكم المبجلة النية في احتلال دول غرب افريقيا فكنا نتمنى ان يتم ذلك بالتعاون مع الجمهورية الفرنسية لضمان عدم المساس بمصالحنا العليا هناك)!
تحرى جعفر النميري الأمر فعلم ان قواته قد تمددت حتي شمال نيجيريا، فأمر بعودة الكتيبة ورد برسالة طمأن فيها الرئيس الفرنسي بعدم رغبته في استعمار دول غرب إفريقيا، لأن السودان ليس بلداً استعمارياً، ولا ينهب مقدرات الشعوب، وكل ما في الأمر كان تحركا لتأمين الحدود من العصابات واللصوص والفوضى، ليس إلا.
هكذا كان السودان وهكذا أصبح الآن!