إبراهيم بن سعد الماجد
بين يديّ منتدى (حوار الأمن والتأريخ) الذي تنظِّمه وزارة الداخلية بالشراكة مع دارة الملك عبدالعزيز وتحت رعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف وزير الداخلية -حفظه الله- يأتي هذا المقال الذي نحاول فيه أن نلقي الضوء على مسألة الأمن في حياة الإنسان عبر التأريخ، مستعرضين ما تحقق من أمنٍ فريد منذ اليوم الأول لدخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الرياض، وما تحقق بعد ذلك من أمنٍ لحجاج بيت الله وزوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم عليه السلام عندما دعا ربه كان الأمن هو المطلب الأساس. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (البقرة:126).
الأمن في نصوص القرآن الكريم
(جاءت نصوص القرآن حافلة بتعظيم شأن الأمْن، وتنوّعت أساليب الدلالة على أهميته في حياة الإنسان، ومن ذلك امتنانه تعالى على المسلمين بنعمة الأمن في البلد الحرام: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} (البقرة:125)، أي: «يأمن به كل أحد، حتىّ الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار15». ودعا إبراهيم عليه السلام ربّه، أن يجعل البلد الحرام آمنا، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (البقرة:126)، أي: «أن يكون محفوظاً من الأعداء الذين يقصدونه بالسّوء16». وامتنّ على قريش بهذه النِّعمة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت:67)، أي: «يأمن فيه ساكنه من الغارة، والقتل، والسبي، والنهب، فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيره من العرب، فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها17». كما امتنّ الله على القوم الغابرين بأمْن القرى والبلدان، كامتنانه على أهل مصر في عهد يوسف بالأمن: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ} (يوسف:99)، أي: «من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارّة، وزال عنهم النّصب ونكد المعيشة، وحصل السّرور والبهجة18». ومن ذلك أمْنُ الطّرقات والسّير فيها ليلاً من غير خوف: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ:18)، أي: «لا تخافون عدوّاً ولا جوعاً ولا عطشا19». وكذلك أمْنُ المعَاش: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل:112)، وهذه القرية هي: «مكّة المشرَّفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد.. وكانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسَّر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان20». كما أشار القرآن إلى أمْنِ القبيلة والجماعة في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (ريش:3-4)، والمراد هنا قريش، وفي الآية دليل على أن «رغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى21». وكذلك أمْنُ العمران من بناء الدُّور، وإقامة الحدائق، واستثمار الزرع، والثمر، وغيرها من المرافق: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} (الشعراء:146- 148)، وفي هذا: «تنبيه على نعمة عظيمة لا يدل عليها اسم الإشارة؛ لأنها لا يشار إليها وهي نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم ولا يتذوّق طعم النِّعم الأخرى إلا بها22». كما أشار القرآن إلى الأمن في المعاملات بين الناس، كترْك توثيق الدّيون بالكتابة، والإشهاد، والرّهن، عندما يأمَنُ الناس بعضهم بعضا، فقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (البقرة:283)، أي: «إن أمِنَ كل من المتداينين الآخر، أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن.. والأمانة: مصدر آمنه، إذا جعله آمنا، والأمن: اطمئنان النفس وسلامتها مما تخافه23». وامتنّ الله على المؤمنين بالأمَنَة من العدوِّ أثناء الحرب: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ} (آل عمران:154)، يعني: «أمْنا، والأمْن الأمنة بمعنى واحد، وقيل: الأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمَنَة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما»)(1)
واذا قلنا الأمن فإننا نعني أكثر من جانب، فهناك الأمن النفسي، والفكري، والاجتماعي، والديني، أمن المجتمع المحلي وكذلك العالمي.
فالإسلام لم يفرق في قضية منح الأمن بين المسلم وغيره، بل جعل حماية النفس البشرية في عمومها مطلب أساس.
الملك عبدالعزيز وتحقيق الأمن الشامل
(كانت بلاد الجزيرة العربية قبل توحيد المملكة تعاني اضطراب الأمن، ولما بدأ الملك عبدالعزيز بضم مناطق البلاد حرِص على سنِّ تنظيمات جديدة لإرساء الأمن الداخلي، منها مشروع توطين البادية وإنشاء الهجَر الذي نتج عنه استقرار عدد كبير من القبائل الرحَّل، ولما توحَّدت منطقة الحجاز ازداد اهتمام الملك عبدالعزيز بتحقيق الأمن، خاصة أمن حجاج بيت الله، فأمر بتنظيم الشرطة بإنشاء المديرية العامة للشرطة في 29 محرم 1344هـ/ 2 أغسطس 1925م، ومقرها مكة المكرمة. ولحرصه على سلامة حجاج بيت الله المسافرين برًّا بين مكة المكرمة والمدينة المنورة أمر بإنشاء أول جهاز لأمن الطرق في 1345هـ/ 1926م، وكان من مهامه إخطار الحجاج بأخطار الطريق، وإقامة دوريات أمنية من الهجّانة والسيارات تقطع طريق مكة المكرمة - المدينة المنورة بأكمله في كل يوم.
وأنشئت لاحقًا إدارات أخرى للشرطة في مناطق متعددة من المملكة)
وقد أولى أبناء الملك عبدالعزيز من بعده مسألة الأمن جلَّ اهتمامهم، فكانت الكليات والأكاديميات والمعاهد التي تخرِّج آلاف الضباط والجنود، مما عزَّز من الأمن الداخلي وأمن الحدود وكذلك الدفاع الجوي والقوات البرية والبحرية والحرس الوطني.
وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان- حفظهما الله - تواصل بلادنا تطوير منظومتها الأمنية، وتولي مسألة الأمن الفكري ومحاربة الإرهاب والتطرف جلَّ عنايتها، مما جعل من بلادنا مرجعية في هذا الشأن.
لقد نجحت بلادنا بفضل الله ثم بعنايتها الفكرية والأمنية والاجتماعية بالقضاء على التطرف والإرهاب مما جعل بلادنا تعيش في بحبوحة من الأمن والاستقرار رغم الاضطرابات في منطقتنا العربية.
حفظ الله بلادنا وأنعم علينا بقيادتنا واستقرارنا.
هامش:
1- د. عبدالكريم حامدي