جانبي فروقة
يدخل السائح الأمريكي في بكين في الصين مطعم ماكدونالدز ليشتري «بيغ ماك» ليكتشف أنها أرخص بكثير مما يدفعه في نيويورك أو واشنطن. وقد يظن السائح أن هذه صدفة سعيدة، لكنها ليست كذلك. هذه الوجبة السريعة تخفي وراءها قصة أعمق بكثير، قصة من هو الاقتصاد الأقوى في العالم أمريكا أم الصين؟
فعلى الورق، ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المرتبة الأولى اقتصاديًا، حيث إن الناتج المحلي الإجمالي بالأرقام الرسمية يقول ذلك. لكن الواقع شيء آخر، أكثر تعقيدًا وربما أكثر صدمة. فوجبة بيغ ماك تكشف لعبة العملات، منذ سنوات تعتمد مجلة «The Economist» الإيكونوميست على مؤشر بيغ ماك لقياس القوة الشرائية الحقيقية للعملات معتمدة على فكرة بسيطة وهي: إذا كانت نفس الوجبة تُباع في بلدين بأسعار مختلفة، فهناك على الأرجح خلل في سعر الصرف. ففي أمريكا، سعر البيغ ماك 6.01 دولار أما في الصين حوالي 3.20 دولار. إذًا، اليوان الصيني مقيم بقيمة أرخص بكثير مما يجب أن يكون. وبهذا، حين نحسب الاقتصاد الصيني ليس بسعر صرف السوق، بل بما يُعرف بـ»تكافؤ القوة الشرائية»، نجد أن الصين تجاوزت أمريكا منذ زمن! وإذا ما أضفنا الوجه الخفي لاقتصاد الظل نجد المفاجأة، فهناك جزء كبير من الاقتصاد الصيني لا يظهر أصلاً في الأرقام الرسمية وهو ما يدعى باقتصاد الظل وهو ذلك العالم المليء بالمصانع الصغيرة، التجار النقديين، العاملين بلا تراخيص، وحتى الأساطيل «السرّية» التي تنقل النفط والبضائع بعيدًا عن الأعين ودفاتر الضريبة فوفق تقرير «إيرنست آند يونغ» لعام 2025، فإن اقتصاد الظل في الصين يقدّر بحوالي 3.6 تريليون دولار. وهذا يصل إلى 20 % من الناتج القومي الصيني وبالمقارنة مع اقتصاد الظل في أمريكا الذي لا يتجاوز 5 % من الناتج، ولو أضفنا هذا إلى الحسابات تتغير معادلة الناتج القومي كليًا، لأن العالم لا يعيش في جداول الإكسل فقط، فالناس تعمل، تنتج، تبيع، وتشتري بطرق لا تراها الحكومات دائمًا. ومن هنا نفهم أن الاقتصاد الحقيقي لا يُقاس فقط بما يظهر في العلن، بل بما يحدث أيضًا في الخفاء.
لا تلعب الصين ببساطة بنفس قواعد أمريكا. لكنها تصنع واقعها الخاص، في الأزقة، المصانع العائلية، التطبيقات المحلية، والأسواق الإلكترونية وهناك شئنا أم أبينا اقتصاد نابض يعيش ويتوسع، حتى إن لم تُعترف به المؤسسات الدولية بعد.
ومن منظور مؤشر البرغر واقتصاد الظل نجد أن ترتيب القوى الاقتصادية في العالم ليس محسوما والصين لا تنتظر الاعتراف بل تمضي في بناء إمبراطوريتها عن طريق تأمين قدرة شرائية أقوى وبناء اقتصاد موازٍ بشكل أعمق وبالتفاف على القيود والعقوبات بشكل أذكى دائما ورغم ذلك تعمل الصين بشكل هادئ دون التبجح بإعلان فوزها.
كشف برغر ماكدونالدز المستور عند احتساب الناتج المحلي الصيني بقيمة القوة الشرائية، حيث إننا نجد أن اقتصاد الصين أكبر من اقتصاد الولايات المتحدة بالفعل، حيث يتجاوز 31 تريليون دولار مقابل حوالي 27 تريليون دولار أمريكي حسب تقديرات البنك الدولي. وإذا ما أضفنا حجم اقتصاد الظل للطرفين سنجد أن الناتج القومي الصيني يصل إلى 34.6 تريليون مقابل 28.4 تريليون لأمريكا.
وعد الرئيس الأمريكي ترامب في الحرب التجارية بين أمريكا والصين بأن الصين ستدفع الثمن ولكن يبدو أن المواطن الأمريكي أو المستهلك الأمريكي الذي بدأت ثقته تهتز بالاقتصاد هو من يدفع الثمن الآن فبعد ستة أشهر من عودة ترامب للحكم بدأ المواطن الأمريكي يلحظ ارتفاع أسعار في رفوف المتاجر نتيجة الرسوم الجمركية الضخمة وارتفعت أسعار الأثاث والملابس والمنتجات الإلكترونية وباتت العائلة الأمريكية تدفع الآن ما يقارب من 2800 دولار أمريكي سنويا نتيجة الرسوم وحسب Wall Street Journal فإن التضخم ارتفع إلى 2.7 % وكما أن سياسات الهجرة وترحيل المهاجرين تظهر فجوة حقيقية في الزراعة والبناء والمطاعم حيث تعتمد هذه القطاعات على الأيدي العاملة الأجنبية وتشير التقارير إلى أن الاقتصاد الأمريكي قد يخسر ما يصل إلى 1 % من نموه السنوي بسبب سياسات الطرد الجماعي للعمال غير النظاميين وفي المقابل وفي الطرف الصيني نجد أن الفقاعة العقارية تهدد المعجزة الاقتصادية الصينية فقد خسر قطاع العقارات الحيوي خلال أربع سنوات 18 تريليون دولار من قيمته وبات اليوم هناك أكثر من 80 مليون شقة سكنية فارغة في الصين بسبب ازدياد المعروض وتناقص عدد السكان وتراجع أسعار العقارات.
يدعو المفكر والضابط السابق ليو مينغفو في كتابه «الحلم الصيني» إلى هيمنةٍ صينيةٍ تُعيد إنتاج الهيمنة الغربية بصيغتها الصلبة، ويقدّم رؤية أعمق وأكثر طموحًا: حلمٌ لأمةٍ تتعافى من قرنٍ من الانكسارات، وتنهض ليس فقط بقوتها، بل بصورةٍ جديدة للعالم.
يرى ليو أن الصين لا تسعى للسيطرة، بل لإثبات ذاتها كنموذج مختلف، كنظام يمكنه أن يُنافس أمريكا دون أن يُشبهها. فالصراع بين بكين وواشنطن، في نظره، ليس مجرد تنافس على النفوذ، بل مبارزة بين رؤيتين للحضارة: واحدة ترتكز على التفوق العسكري والنفوذ القهري، وأخرى تحلم بالتنمية والسلام والانسجام.
«الحلم الصيني» الذي يتحدث عنه ليو ليس حلم شخصٍ أو طبقة، بل حلم أمة كاملة: أمة تريد أن تتحرر من عقدة «القرن المُهين»، وأن ترى نفسها في قلب المشهد العالمي لا على هامشه. حلمٌ بأن تكون الصين في طليعة الأمم، لكن دون أن تسلك طريق الاستعمار أو الفرض. ولتواكب الصين التطور التكنولوجي قامت مؤخرا باستهداف وتعديل ما يشكل 20 % من برامج الجامعات، ضمن خطة لتحويل التعليم نحو الصناعات الحديثة والتقنيات المتقدمة. وإن كانت المنافسة مع أمريكا، كما يقول ليو في كتابه، أمرًا لا مفر منه، إلا أن نوع الهيمنة التي يدعو إليها ليست هيمنة السلاح، بل هيمنة النموذج، أن يرى العالم في التجربة الصينية بديلًا قابلًا للحياة، وربما... أكثر عدلًا. الحقيقة الملموسة أن الصين استطاعت خلال 40 عاما من إخراج 800 مليون مواطن من الفقر وقامت بثورة في البنية التحتية والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والابتكار الصناعي وقللت الجريمة إلى مستويات متدنية وأقامت نظاماً اجتماعياً مستقراً.
** **
- كاتب أمريكي