د.إبراهيم بن عبدالله السماري
الثقافة في اللغة العربية لها مدلولات عميقة، ومن أوضح تلك المدلولات ارتباطاً وثيقاً بموضوع هذا المقال ما جاء في «لسان العرب» لـ «ابن منظور» من أن كلمة «ثَقِفَ» تدل على التحذق، بمعنى أن يصبح الشخص حاذقًا وفطنًا، سريع الفهم. وعلى الظفر، بمعنى أن يظفر الشخص بشيء أو يجده. وعلى الاستيعاب، بمعنى أن يفهم الشخص شيئًا بسرعة ويستوعبه جيدًا.
غير أن ما استوقفني في هذا العنوان «ثقافة الوزراء» هو أن الكثير من المثقفين - بَلْهَ عامة الناس - لا يدركون الرابط الوثيق بين الثقافة والوزارة، ويكتفون بالاشتراطات الوظيفية المعلنة لهذا الرابط، ولا يتوقفون كثيراً عند تأثيرات المعنى العميق لثقافة الوزراء؛ في تشكيل وتأطير ثقافة المجتمع كافة، وفي تأصيل علم الإدارة، وبالتالي الحصول على مقياس أكثر دقةً ووعياً لثقافة المجتمع الذي تتم فيه عملية الثقافة والتثاقف والمثاقفة، ولجودة نظامه الإداري؛ لذا فرحت كثيراً عندما تصفحتُ رسالةً علمية وجدتُ موضوعَها ذا جِدَة، وثريّاً؛ لأن الباحثةَ لامَسَتْ هذا الجانب المهم بعيون ذكية فاحصة، وثاقَفَتْهُ تأريخاً ومحتوى، وتحليلاً لتأثيره في النظام الإداري للدولة.
«ثقافة وزراء الخلفاء العباسيين وحياتهم الاجتماعية وأثرهما في إدارة الدولة» هو عنوان دراسة علمية، وهو القلادة التي أحاطت عنقها؛ لتكفيك -أخي القارئ- دليلاً على أهميتها وتميزها، وقد أحسنت الباحثة الأستاذة «بشاير بنت راشد الهزاع» معالجة هذا الموضوع المهم، مستمدةً بشاير نجاحها من المادة العلمية الثرية والمصادر التي أوضحتها في مقدمة بحثها، والتخطيط لتناول عناصره بالدراسة والتحليل والربط المنطقي العميق، بين الحياة الاجتماعية، بما فيها من مظاهر مادية، وفكر، وتنظيمات، وبين علم الإدارة؛ مُبْرِزةً أثر هذه الثقافة من خلال التطبيقات العملية في إدارة الدولة، مهديةً عملها إلى والديها، بعبارات جميلة يفوح منها عطرُ البِرّ بهما والامتنان لهما.
انطلقت الباحثة في دراستها من منطلق أربعة أسئلة، حددت بها التساؤلات التي ستجيب عنها دراستها، وهي:
- ما أبرز مصادر التكوين الثقافي للوزراء قبل توليهم الوزارة، وبعدها؟
- ما أبرز مجالات ثقافة الوزراء، وكيف كان أثرها؟
- ما طبيعة أحوال الوزراء الاجتماعية قبل توليهم الوزارة، وبعدها؟
- ما أثر ثقافتهم، وأحوالهم الاجتماعية في إدارة الدولة العباسية، وماذا نتج عنها؟
هادفة إلى توضيح المصادر التي تلقى منها الوزراء ثقافتهم، وأثرها في وصولهم إلى أهم منصب في الدولة، واهتمامهم بزيادة ثقافتهم بعد توليهم الوزارة، وبيان تخصصات، واهتمامات الوزراء في المجالات الثقافية، وأثرها في تكوين شخصياتهم، منتهية إلى بيان أثر ثقافة الوزراء، وحياتهم الاجتماعية في إدارة الدولة العباسية.
وقد عُنِيت الباحثة بالتركيز على التأصيل والتوثيق العلمي، ففي المبحث الأول من التمهيد لبحثها سلطت الأستاذة بشاير الضوء باهراً على «الوزارة ومكانتها في الدولة العباسية» مركزةً على الازدهار الوزاري في هذا العهد، والاشتراطات الوظيفية والثقافية لمن يتولاها، محددةً في المبحث الثاني «الأوضاع العامة في الدولة العباسية» التي استدعت هذا التنظيم الإداري والاجتماعي، ليجيئ الفصل الأول واصفاً بدقة «التكوين الثقافي للوزراء قبل تولي الوزارة» موضحة ملامح هذا التكوين في مبحثين، الأول منهما عن «مصادر ثقافة الوزراء» مثل: التعليم والتأديب المبكر، وموروث الأسرة الثقافي، والدراسة التخصصية والشيوخ، ومجالس العلم والأدب والمناظرات العلمية، والاتجاهات الفكرية والمذهبية في محيطهم. في حين جاء المبحث الثاني مبرزاً «مكونات ثقافة الوزراء» مثل: العلوم الشرعية، علوم اللغة والأدب، والتاريخ والسياسة، والعلوم التطبيقية. مفصلة الحديث في الفصل الثاني من خلال أربعة مباحث عن: «حياة الوزراء الاجتماعية قبل تولي الوزارة» من حيث الأسرة والنشأة، ومهنهم وأعمالهم ومصادر دخلهم، وحياتهم الأسرية ومستوى معيشتهم، ومكانتهم الاجتماعية وعلاقاتهم. لتنتقل في الفصل الثالث من خلال أربعة مباحث إلى «الحياة الاجتماعية والثقافية للوزراء بعد تولي الوزارة» مقارنة أوضاعهم بعد الوزارة من حيث: مصادر ثقافتهم والعوامل المؤثرة فيها، وأوضاعهم الاجتماعية من حيث المساكن والملابس والاحتفالات، ورواتبهم ومصادر دخلهم، ومكانتهم الاجتماعية وعلاقاتهم. وفي الفصل الرابع: ركزت الباحثة من خلال أربعة مباحث على التحليل لبيان: «أثر ثقافة الوزراء وحياتهم الاجتماعية في إدارة الدولة» مفصلة القول في المجالات التي شهدتها هذه الآثار، وهو في نظري أدق وأوفى من مجرد السرد البياني فحسب، فتناولت: الآثار في المجال السياسي والإداري، والآثار في المجال العسكري والأمني، والآثار في المجال العلمي والفكري، والآثار في المجال الاقتصادي والاجتماعي. مختتمة بحثها بأهم ما توصلت إليه من حقائق، وما توصي به من اقتراحات، ومزينةً دراستها بتسعة ملاحق، ضَمَّنَتْها: قائمة بالخلفاء العباسيين، وقائمة بالوزراء ونواب الوزراء، ومدة وزارتهم، وقائمة بأسماء الوزراء الوارد ذكرهم في الدراسة، والمناصب الدينية والإدارية التي تقلدها الوزراء، ونوع مؤلفاتهم العلمية والأدبية، وتصنيفات كتبهم، كما رسمترسماً بيانياً لوظائف الوزراء، وآخر لمؤلفاتهم العلمية والأدبية.
وبعد استعراض المحتوى العلمي لهذه الدراسة، واستحضار أهمية الموضوع وجِدَته؛ أقول: إن هذه الدراسة مهمة ومتميزة في موضوعها، وفي معالجتها، وثرية في مصادرها العلمية، ومبرزة الازدهار العلمي والثقافي المبكر في الدولة العباسية، ولاسيما في مجال العلوم التطبيقية، كالفلك، والحساب، والرياضيات، والهندسة، والمنطق، والفلسفة.
ولذا أوصي الباحثة بطباعتها في كتاب؛ لإدناء ثمارها لدور النشر التي تبحث عن السمين، لتقديمه على طبق من ذهب للقراء الشغوفين بعمل علمي عميق.
كما أقترح بعد أن انتهت الضرورة الوظيفية للرسالة؛ أن تضيف الجانب الإثرائي المعاصر لدراستها من خلال تخصيص فصل خامس بعنوان: (ثقافة الوزراء في الدولة السعودية الحديثة، وأثرها في تشكيل النظام الإداري السعودي) ليكون عنوان الكتاب المقترح: (ثقافة وزراء الخلفاء العباسيين وحياتهم الاجتماعية وأثرهما في إدارة الدولة، مع تطبيقات عن ثقافة الوزراء في الدولة السعودية الحديثة، وأثرها في تشكيل النظام الإداري السعودي).
كما أوصي بأن تتولَّى طباعة هذا الكتاب - وفق الضوابط العلمية المعتمدة - إحدى الجهات المهتمة بالتأريخ الوطني، مثل: دارة الملك عبدالعزيز، أو مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، أو مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث.
ودولة فيها وزراء ونوابهم ومستشارون لهم أثر كبير في بناء الدولة وأنظمتها مثل: شكيب أرسلان، والمازني، والعقاد، وخير الدين الزركلي، ود. عبدالعزيز الخويطر، ود. غازي القصيبي، ود. محمد عمر توفيق، ود. عبدالعزيز خوجة، ود. عبدالرحمن الشبيلي، وغيرهم من القامات السامقة، من العار أن لا يُدرَس أثر ثقافتهم في عملهم الوزاري، وفي النظام الإداري الوطني، بل وفي بناء الدولة وتمكينها. وبالله التوفيق.